التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ذكر النبي وروايته عن ربه

          ░50▒ باب ذِكْرِ النَّبِيِّ صلعم وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ ╡.
          ذكر فِيْهِ خمسة أحاديث:
          7536- أحدها: حَدِيث قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم يرويه عَنْ رَبِّهِ ╡ قَالَ: (إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإذَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إليه بَاعًا، وَإذا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً). /
          7537- ثانيها: حَدِيث التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ☺، عَنْ أبِي هُريرَة ☺، قَالَ _رُبَّمَا ذَكَرَ النَّبِيَّ صلعم_ قَالَ: (إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ منه ذِرَاعًا، وَإذَا تَقَرَّبَ مني ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ منه بَاعًا) أَوْ: (بُوعًا).
          وَقَالَ مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي سَمِعْتُ أَنَسًا ☺ عَنْ أبِي هُريرَة ☺ عَنِ النَّبِيِّ صلعم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ ╡.
          7538- ثالثها: مُحَمَّدُ بنُ زيادٍ: سَمِعْتُ أَبَا هُريْرَة ☺، عَنِ النَّبِيَّ صلعم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ ╡ قَالَ: (لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ، وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عند الله مِنْ رِيْحِ المِسْكِ).
          7539- رابعها: حَدِيث شُعبَةَ عَن قَتَادَةَ.
          وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حدَّثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ شُعبةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي العَالِيَةِ، عَنِ ابن عبَّاسٍ ☻، عَنِ النَّبِيِّ صلعم فِيْمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: (لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُوْنُسَ بْنِ مَتَّى). وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ.
          وقد أسلفنا غير مرَّةٍ أنَّ اسمَ أبي العَالِيةِ هَذَاَ رُفَيعُ بن مِهْرَانَ، أعتقتهُ امرأةٌ مِن بني رِيَاحٍ سائبةً لوجه الله، وطافت به عَلَى حِلَق المسجدِ، وأنَّه مُتَّفَقٌ عليه، وأنَّ مُسلمًا انفرد بأبي العاليةِ زِيَادِ بن فَيْرُوزَ مولى قُرَيشٍ، يروي عن ابن عبَّاسٍ، يُقال له: البرَّاء، كان يَبْرِي النَّبل.
          7540- خامسها: حَدِيث عَبْد الله بن مُغَفَّلٍ المُزَنيِّ ☻ _بالغين المعجمة والفاء_ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُول اللهِ صلعم يَوْمَ فتح مكَّةَ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الفَتْحِ _أَوْ مِنْ سُوْرَةِ الفَتْحِ_ قَالَ: فَرَجَّعَ فيهَا قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ يَحْكِي قِرَاءَةِ ابن مُغَفَّلٍ وَقَالَ: لَولَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابن مُغَفَّلٍ، يَحْكِي النَّبِيَّ صلعم، فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ كَاَنَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ: (آا آا آا) ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
          الشَّرح: معنى هَذَاَ الباب أنَّه ◙ روى عن ربِّه ╡ السُّنَّة كما روى عنه القُرآن، وَهَذَا مبيَّنٌ فِي كتاب الله تعالى فِي قَوْلُهُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4]، ومعنى حَديث ابن مُغَفَّلٍ فِي هَذَاَ الباب التنبيه عَلَى أنَّ القُرآن أيضًا يرويه عن ربِّه تعالى.
          وفيه مِن الفقه: إجازة قراءة القُرآن بالترجيع والألحان الملِذَّة للقلوب بحسنِ الصَّوت المنشود لا المكفوف عن مَدَاه الخارج عن مَسَاق المحادثة، أَلَا ترى أنَّه ◙ أرادَ أَنْ يُبَالغ فِي تزيين قراءته لسُورة الفتح التي كَاَنَ وعَدَهُ الله فيها بفتح مكَّةَ فأنجزَ له؛ ليستميلَ قُلُوب المشركين العُتَاة عَلَى الله بِفَهْم مَا يتلوه مِن إنجاز وعْدِ الله له فيهم بإلذاذِ أسماعهم بحسن الصَّوت المرجَّع فِيْهِ بنغمٍ ثلاثٍ فِي المدَّة الفارغة مِن التَّفصيل.
          وقول مُعَاويةَ يدلُّ أنَّ القراءة بالترجيع والألحان تجمعُ نفوس النَّاس إِلَى الإصغاء والفهم ويَستميلها ذَلِكَ حَتَّى لا تكاد تصبرُ عَلَى استماع الترجيعِ المشُوبِ بلذَّة الحكمة المفهومة.
          وَقَد سَلَفَ فِي فضائل القُرآن فِي باب: مَن لَمْ يتغنَّ بالقرآن، اختلاف العلماء فِي قراءة القُرآن بالألحان والتغنِّي به، فراجعه [خ¦5023].
          وَقَوْلُهُ: (كَاَنَ تَرْجِيْعُهُ آا آا آا) كَاَنَت قراءته ◙ بالمدِّ والوقوف عَلَى الحروف.
          فَصْلٌ: قَد سَلَفَ قَوْلُهُ: (إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ...) إِلَى آخره، أنَّ معناه إِذَا تقرَّب إليَّ بالطَّاعة قَرُبَت رَحْمتي مِنْهُ وكرامتي وعَطْفِي، ومثله: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9] فِي أنَّ المراد: قُرْب المنزلة وتوقير الكرامة.
          والهَرْوَلَةُ عبارةٌ عن سرعة المشي وهنا عبارةٌ عن سرعة الرَّحمة إليه ورضا الله عنه وتَضْعِيف الأجر له، كمن مشى إِلَى صاحبه شِبرًا استقبله الآخر ذِراعًا وَيُهَرْوِلُ، والهرولة أصلها ضَرْبٌ مِن العَدوِ بين المشي والعَدْوِ.
          والباع بين اليدين قاله الخطَّابيُّ، والبَوْعُ مصدر باَعَ يَبُوعُ: إِذَا مدَّ باعَهُ وبَسَطَ يدَه لإدنائه مِن نفسه قَالَ: وقد تحتمل الرواية أَنْ يكون بُوعًا _بضمِّ الباء_ جمع بَاع مثل دادٍ ودُود وسَاق وسُوق.
          فَصْلٌ: فِي حَديث ابن عبَّاسٍ ☻: (يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ). قال الدَّاودِيُّ: أكثر الرواية ليس فيها كذلك، وإن كَاَنَ محفوظًا فهو ممَّن سوى النَّبِيِّ صلعم؛ لأنَّه قَالَ: ((أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ)). ويحتمل أَنْ يكون ممَّن سوى النَّبِيِّ صلعم ممَّن بعدَهُ أَوْ مِن بني آدَمَ جميعًا، وقيل: لَمْ يكن مِن أُولي العَزْم مِن الرُّسُل، فقال ◙ هَذَاَ عَلَى طريق الإشفاق والتأدُّب.