التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {وكانَ عرشه على الماء}

          ░22▒ باب قَوْلِهِ تَعَالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7].{وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]
          قَالَ أبُو العَالِيَةِ: {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29]: ارْتَفَعَ، {فَسَوَّاهُنَّ} [البقرة:29]: خَلَقَهُنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {اسْتَوَى} [الأعراف:54]: عَلاَ {عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]. وَقَالَ ابن عبَّاسٍ ☻: {الْمَجِيدُ} [البروج:15]: الكَرِيْمُ، وَ{الْوَدُودُ} [البروج:14]: الحَبِيْبُ. يُقَالُ: حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، كأنَّه فَعِيْلٌ مِنْ مَاجِدٍ، ومَحْمُودٌ مِنْ حَمِيْدٍ.
          ثُمَّ ساق أحاديث سنذكرها واحدًا واحدًا، وغرضه فِي الباب حَديث العرْشِ بدليل قوله تَعَالَى: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]، وبدليل قوله فِي حَديث أبي سَعِيدٍ الآتي: (فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ العَرْشِ) فوصَفَهُ تَعَالى بأنَّه مربوبٌ كسائر المخلوقاتِ، ووصفَهُ ◙ بأنَّه ذو أبعاضٍ وأجزاءٍ منها ما تُسمَّى قائمةً، والمبعَّض والمتجزِّئ لا محَالَةَ جِسمٌ والجسمُ مخلوقٌ؛ لدلائل قيام الحَدَث به مِن التأليف خِلافًا لِمَا يقوله الفلاسفة أنَّ العرش هُوَ الصانعُ الخالِقُ.
          وأثر أبي العَالِيَةِ أخرجه الطَّبرِيُّ عن مُحَمَّد بن أَبانَ: حدَّثنا أبُو بكر بن عيَّاشٍ، عن حُصَينٍ، عنه. وأثر / مُجَاهدٍ ذَكَره فِي «تفسيره» رواية ابن أبي نَجِيحٍ عن وَرْقَاءَ عنه.
          وأثر ابن عبَّاسٍ أخرجه البَيْهَقِيُّ مِن حَديث عُثْمانَ بن سَعِيدٍ الدَّارِميِّ، حدَّثنا عَبْد اللهِ بن صالحٍ، عن مُعَاويةَ بن أبي صالحٍ، عن ابن أبي طَلْحة، عنه به.
          فَصْلٌ: وأمَّا الاستواء فاختلف الناس فِي معناه:
          فقالت المعتزلة: إنَّه بمعنى الاستيلاء والقَهْر والغَلَبة، واحتجُّوا بقول الشاعر:
قد استوى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ                     مِن غيرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
          بمعنى قَهَر وغَلَب. وَقَالَ كثيرٌ مِن أهل اللُّغة: إنَّ مَعنى {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} واستقرَّ؛ لقوله تَعَالَى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون:28]، وأنكرَ بعضهم الأوَّل، وَقَالَ: لا يُقال استولى إلَّا لمن لَمْ يكن مُستوليًا؛ لأنَّه تَعَالَى لَمْ يزل مستوليًا.
          ثُمَّ اختلف مَن سِوى المعتزلة فِي العبارة، وهي ثلاثةٌ كما ذكرناها: (ارتفع)، (علا). (استقرَّ).
          فأمَّا قول مَن جعل الاستواء بمعنى: القَهْر والاستيلاء، فقولٌ فاسدٌ كما قرَّرناه لأنَّ الله تَعَالَى لَمْ يزل قاهرًا غالبًا مُستوليًا، وَقَوله تَعَالَى: {ثمَّ استوى} يقتضي استفتاح هَذَا الوصف واستحقاقه بعد أن لَمْ يكن، كما أنَّ المذكور في البيت إنَّما حصل له هذا الوصف بعد أن لم يكن، وتشبيههم أحد الاستواءين بالآخر غير صحيحٍ، ومؤدٍّ إِلَى أنَّ الله تَعَالَى كَاَنَ مغالبًا فِي مُلكه، وَهَذَا منتفٍ عن الله تَعَالَى، إنَّ الله تَعَالَى هُوَ الغالبُ لجميع خَلْقه.
          وأمَّا مَن قَالَ: تأويله: استقرَّ، ففاسِدٌ؛ لأنَّ الاستقرار مِن صِفات الأجسام، وأمَّا تأويل ارتفعَ فقولٌ مرغوبٌ عنه لِمَا فِي ظاهره مِن إيهام الانتقال مِن سفلٍ إِلَى علُوٍّ وذلك لا يَليقُ بالله. وأمَّا تأويل (عَلا) فهو صحيحٌ، وَهْوَ مذهب أهل السُّنَّة والحقِّ، كما قاله ابن بطَّالٍ.
          ثُمَّ قَالَ: فإن قلت: ما التزمتَهُ فِي ارتفعَ مِثله يَلزم فِي علا، قيل: الفرقُ بينهما أنَّ الله تَعَالَى وصفَ نفسه بالعلُوِّ بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40] فوصَفَ نفسه بالتَّعالي والتَّعالي مِن صِفات الذَّات، ولم يصِفْ نفسه بالارتفاع، وقال بعضهم: الاستواء ينصرِفُ مِن كلام العرب عَلَى ثلاثة أوجهٍ:
          فالوجه الأوَّلُ: قوله تَعَالَى فِي ركوب الأنعام: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13] فهذا الاستواء بمعنى الحُلُول، وَهْوَ منتفٍ عَنْ الله ╡ لأنَّ الحُلُول يدلُّ عَلَى التحديد والتَّناهي، فبطل أنْ يكون حالًّا عَلَى العرش بهذا الوجه.
          والوجه الثاني: الاستواء بمعنى: الملْكُ للشيء والقُدْرة عليه كما قال بعض الأعراب، وسُئل عَنْ الاستواء فقال: خضَعَ له ما في السَّماوات وما في الأرض، ودانَ له كلُّ شيءٍ وذلَّ، كما نقول للملِك إِذَا دانت له البلاد بالطَّاعة: حتى استوت له البلاد.
          والثالث: الاستواء بمعنى: التَّمام للشيء والفَرَاغ مِنْهُ كقوله {ولمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14]، فإنَّ الاستواء هنا التَّمام كقوله ╡: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أراد التمام للخلق كلِّه، وإنَّما قصد بذكر العرش لأنَّه أعظمُ الأشياء، ولا يدلُّ قوله تَعَالَى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] أنَّه حالٌّ عليه، وإنَّما أخبر عَنْ العرش خاصَّةً أنَّه عَلَى الماء ولم يُخبر عَنْ نفسه أنَّه جعلَهُ للحُلُول؛ لأنَّ هذَا كان يكون حاجةً مِنْهُ إليه، وإنَّما جعله لتتعبَّد به ملائكتُهُ فقال تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ} الآية [غافر:7]، وكذلك تعبَّد الخلقَ بحجِّ بيته الحرام، ولم يسمِّه بيتَه بمعنى أنَّه يَسْكنُهُ، وإنَّما سمَّاه بيته لأنَّه الخالِقُ له والمالكُ، وكذلك العرش سمَّاه عرشه لأنَّه مالكهُ، والله تَعَالَى ليس لأوَّليته حدٌّ ولا مُنتهى، وقد كان في أوَّليته وحدَهُ ولا عرشَ معه تَعَالَى عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.
          ثمَّ اختلف أهل السُّنَّة: هل الاستواء صِفةُ ذاتٍ أو صِفة فِعْلٍ؟
          فمَن قال: هو بمعنى علا جعله صِفة ذاتٍ، وأنَّ الله لَمْ يزل مستويًا، بمعنى أنَّه لَمْ يزل عاليًا، ومَن قال: إنَّه صِفة فِعلٍ قال: إنَّ الله تَعَالَى فعَلَ فِعلًا سمَّاه استواءً عَلَى عرشه، لا أنَّ ذلك الفعل قائمٌ بذاته تَعَالَى لاستحالة قيام الحوادث به.
          فَصْلٌ: واستدلَّ بعضهم بهذه الآية عَلَى أنَّ خَلْق السَّماء بعد الأرض، وقال تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] قال ابن عبَّاسٍ: خُلقت الأرض ثُمَّ السَّماء ثُمَّ دَحَى الأرض أَيْ: بَسَطها، وقيل: المعنى ثُمَّ أخبركم بهذا كقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:17] وقيل: (ثُمَّ) بمعنى الواو.
          فَصْلٌ: وَقَوْلِهِ: ({المَجِيْدُ}: الكريم) مِصْداقه قوله ◙: ((إِذَا قال العبدُ: الرَّحمن الرَّحيم، قال الله تَعَالَى: مجَّدني عَبْدِي)) أي ذَكَرني بالكَرَم، وقيل المجيد: الشريف، ومنه: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} الشريف، والمجدُ في كلام العرب: الشَّرف الواسع، قال ابن السِّكِّيت: الشرفُ والمجدُ يكونان بالآباء، يُقال: شريفٌ ماجدٌ إِذَا كَاَنَ له آباءٌ متقدِّمون في الشَّرف، قال: والحَسَب والكَرَم يكونان في الرجل، وإن لَمْ يكن له آباءٌ لهم شَرفٌ.
          وَقَوْلِهِ: (و{الوَدُوْدُ}: الحبيبُ) منه قَوْلِهِ: ((إِذَا أحبَّ الله عبدًا نادى جبريل: إنِّي أحبُّه...)) الحَدِيث. وفي القرآن كثيرٌ، وقال الجَوْهَرِيُّ: الودود: المحبُّ، ورِجالٌ وُدَداءٌ، يستوي فِيْهِ المذكَّر والمؤنَّث، وَصْفًا داخلًا عَلَى وصفِ المبالغة.
          ثُمَّ ساق البُخَارِيُّ في الباب تسعةَ أحاديثَ: