التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب في المشيئة و الإرادة

          ░31▒ باب فِي المَشِيْئَةِ وَ الإِرَادَةِ.
          وقوله تَعَالَى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران:26]. وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [التكوير:29]، وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [الكهف:23-24]. {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]. قَالَ سَعيْدُ بْنُ المُسَيِّبِ، عَنْ أبِيهِ ☺: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ.
          {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
          هَذَا التعليق سلف مُسندًا فِي الجنائز. ثُمَّ ساق فِي الباب أحاديث:
          7464- أحدها: حَدِيْث أنسٍ ☺ قَالَ: قال رَسُول اللِه صلعم: (إِذَا دَعَوتُمْ اللهَ ╡ فَاعْزِمُوا فِي الدُّعَاءِ، ولاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنَ شِئْتَ فَأَعْطِنِي، فَإِنَّ اللهَ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ).
          7465- ثانيها: حَدِيْث عليٍّ ☺: أنَّه ◙ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ فقالَ لهم: (أَلَا تُصَلُّوْنَ؟) فقلت: يَا رَسُوْل اللهِ، إنَّما أنْفُسُنا بِيد اللهِ، الحَدِيْث وقَد سَلَفَ [خ¦1127].
          7466- الثالث: حَدِيْث أبِي هُرَيْرَةَ ☺: (مَثَلُ المُؤمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ) الحديث. وهي الطَّاقة اللِّينَةُ مِن الزَّرْع، ألفُها منقلبةٌ عَنْ واو.
          7467- الرابع: حَدِيْث ابن عُمَرَ ☻: (إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ) الحَدِيْثُ بطوله، وقَد سَلَفَ أيضًا [خ¦557].
          7468- الخامس: حَدِيْث أبي إدريسَ _واسمه عائِذُ الله_ عَنْ عُبَادَة بن الصَّامت ☺: حَديث البَيْعة بطوله، وقَد سَلَفَ أيضًا [خ¦18].
          7469- السادس: حَدِيْث أبِي هُرَيْرَةَ ☺: (أنَّ نَبِيَّ الله سُلَيْمَانَ ◙ كَاَنَتْ لَهُ سِتُّونَ امْرَأَةً). الحَدِيْثَ بطوله فِي المشيئة، وقد سلف أيضًا [خ¦6720].
          7470- السابع: حَدِيْث ابن عبَّاسٍ ☻، فِي الحمَّى (طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ). بطوله سلف أيضًا [خ¦3616].
          7471- الثامن: حَدِيْث أبي قَتَادَةَ فِي يوم الوادي مختصرًا: (إِنَّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِيْنَ شَاءَ، وَرَدَّهَا حِيْنَ شَاءَ).
          7472- الحَدِيْث التاسع: حَدِيْث أبِي هُرَيْرَةَ السَّالف: فِي استباب اليَهُوديِّ مَعَ المسلمِ وقصَّة موسى، وفي آخره: (فَلاَ أَدْرِي أَكَاَنَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَاَنَ مِمَّنْ استَثْنَى اللهُ) [خ¦2411].
          7473- العاشر: حَدِيْث أنسٍ ☺ مرفوعًا: (المدِيْنَةُ يَأْتِيْهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ المَلائِكَة يَحْرُسُونَهَا، فَلاَ يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ وَلاَ الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللهُ).
          7474- الحادي عشر: حَدِيْث أبِي هُرَيْرَةَ ☺: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ، فَأُرِيْدُ _إِنْ شَاءَ اللهُ_ أَنْ أَخْتَبِئ دَعوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ).
          7475- الثاني عشر: حَدِيْث أبِي هُرَيْرَةَ ☺ السَّالف أيضًا: (بَينَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُنِي عَلَى قَليبٍ فَنَزَعتُ مِنْهُ مَا شاءَ اللهُ) الحَدِيْث بطولِهِ، وفي آخرِهِ: (فَلَم أَرَ عَبْقَرِيًّا فِي النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ).
          و(فَرِيَّهُ): بكسر الراء وإسكانها، وأنكرَ الخليل الثاني وغلَّط قائله، ومعناه: يَعْمَلُ بِعَمَلِه، ويَفْرِي فَرِيَّهُ يُقال: فلانٌ يَفْرِي الفَرِى، أَيْ: يعمل العمل البالغ، ومنه: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم:27] أَيْ: عظيمًا، قاله عِيَاضٌ.
          وقوله فِيْهِ: (حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ) أَيْ: رووا ورَوِيت إبلُهم حتَّى برَكَت، وعَطَنُ الإبل: مَبَارِكُها، وأصل ذَلِكَ: حول الماء لتُعَادَ إِلَى الشُّرب.
          7476- الثالث عشر: حَدِيْث أبي موسى السَّالف أيضًا أنَّه ◙ كَاَنَ إِذَا أتَاهُ السَّائِلُ _وَرُبَّمَا قَالَ: جَاءَهُ السَّائِلُ_ أَوْ صَاحِبُ الحَاجَةِ قَالَ: (اشْفَعُوا فَلْتُؤجَرُوا، وليَقْضِ اللهُ عَلَى لِسَانِ نبيِّه مَا شَاءَ). وفي إسناده: أَبُو أسامةَ، واسمه: حمَّادُ بن أُسامةَ.
          7477- الرابع عشر: حَدِيْث أبِي هُرَيْرَةَ ☺: (لا يَقُل أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِر لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارزُقْنِي إنْ شِئْتَ، وَلِيَعْزِمْ المَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لاَ مُكْرِهَ لَهُ).
          7478- الخامس عشر: حَدِيْثُ أنَّه تمارى هُوَ وَالحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى هُوَ الخَضِر. بطوله، وقَد سَلَفَ أيضًا [خ¦74].
          7479- السادس عشر: حَديث أبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: قال النَّبِيُّ صلعم: (نَنْزِلُ غَدًا _إِنْ شَاءَ اللهُ_ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ). يُريدُ المُحَصِّبَ.
          7480- السابع عشر: حَدِيْث أبي العبَّاس: وَهْوَ السَّائب بن فَرُّوخٍ الشاعر الأعمى مولى كِنَانة عَنْ ابن عُمَرَ ☻: حَاصَرَ النَّبِيُّ صلعم أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَفْتَحْهَا فَقَالَ: (إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ)، وذكر الحَدِيْث.
          الشَّرح: جعل ابن بطَّالٍ هَذَا الباب بابين، وساق الأوَّل إِلَى قول سعيدِ بن المسيَّب: (نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ). ثُمَّ ترجم باب: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ثُمَّ ساق فِيْهِ الأحاديث، والأمر فِيْهِ قريبٌ.
          والبُخَارِيُّ ساق الحَدِيْث الثاني عشر عَنْ يَسَرةَ بن صَفْوانَ _بالمثنَّاة تحت_ ابن جَمِيلٍ اللَّخْمِيِّ، حدَّثنا إبراهيم بن سعْدٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ☺.
          قال الإسماعيليُّ: رواه النَّاس عن إبراهيم بن سعْدٍ / فقالوا: عَنْ صالح بن كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، ولا يجوز أَنْ يقدِّم يَسَرة عَلَى جماعتهم، ثُمَّ رواه كذلك مِن حَديث سُليمان بن داودَ الهاشميِّ ويَعْقُوب بن إبراهيمَ قالا: حدَّثنا إبراهيمُ، عَنْ صالِحٍ، ويزيد بن الهادي، عَنْ إبراهيمَ كذلك، ورواه الأُوَيْسِيُّ عَنْ إبراهيم فقال: عَنْ صالِحٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ الأغرِّ وغيره، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ☺، وقال يُونُسُ وعُقَيلٌ والزُّبَيدِيُّ: عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، فِي هَذَا الحَدِيْث، وقال شُعَيبٌ: عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أبي سَلَمَة، عَنْ أبي هُرَيرَةَ ☺.
          وقال أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمشقيُّ فِي «صحيح مُسلمٍ» عَنْ النَّاقِد والحُلْوَانيِّ وعَبْدِ بن حُمَيدٍ، عَنْ يَعْقُوبُ بن إبراهيم بن سعْدٍ، عَنْ أبيه، عَنْ صالِحٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أبي هُرَيرَةَ ☺.
          وحديثه السَّادس عشر أخرجه عَنْ أبي اليَمَان، أخبرنا شُعَيبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، وقال أحمد بن صالِحٍ. وزعم أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمشقيُّ أنَّ البُخَارِيَّ قَالَ: وقال لي أحمدُ بن صالِحٍ، وعند مُسْلمٍ: حدَّثنا حَرْملَةُ، عَنْ ابن وَهْبٍ، عَنْ يُونُس، فذكره.
          فَصْلٌ: معنى الباب: إثباتُ المشيئة والإرادة لله تَعَالَى، وأنَّ مشيئتَهُ وإرادتَهُ ورحمتَهُ وغضبَهُ وسخطَهُ وكراهتهُ كلُّ ذَلِكَ بمعنى واحدٍ أسماءُ مترادفةٌ، هي راجعةٌ كلُّها إِلَى معنى الإرادةِ كما يُسمَّى الشيء الواحد بأسماء كثيرةٍ، وإرادته تَعَالَى صِفةٌ مِن صِفات ذاته خِلافًا لمن يقول مِن المعتزلة: إنَّها مخلوقةٌ مِن أوصاف أفعاله. وقولهم فاسِدٌ؛ لأنَّهم إِذَا أثبتوه تَعَالَى مريدًا، وزعموا أنَّ إرادته محدَثةٌ لَمْ تخلُ مِن أن يُحدِثَها فِي نفسه أَوْ فِي غيره أَوْ لا فِي نفسه، ولا فِي غيره.
          وهذا الَّذِي ذهبوا إليه مُستحيلٌ إحداثه لها فِي نفسه؛ لأنَّه لو أحدَثَها فِي نفسه لَمْ يخلُ منها ومِن ضدِّها عَلَى سبيل التعاقُبِ، ولا يجوز تعاقُبُ الحوادث عَلَى الله لقيام الدَّليل عَلَى قِدَمه قبلَها، ويستحيل أن يُحدِثها فِي غيره؛ لأنَّه لو أحدَثَها فِي غيره لوجب أَنْ يكون ذَلِكَ الغير مريدًا بها، وبطَلَ كونه مريدًا بإرادةٍ أحدثَها فِي غيره كما يبطُلُ أَنْ يكون عالمًا بعِلْمٍ يُحدِثُهُ فِيْهِ أَوْ قادرًا بقُدْرةٍ يُحْدِثُها فِيْهِ؛ لأنَّ قياسَ ذَلِكَ كلِّه واحدٌ، ومَن شرْطِ المريد وحقيقته أَنْ تكون الإرادة موجودةً فِيْهِ دون مَن سواه، ويستحيلُ إحداثه لها لا فِي نفسه ولا فِي غيره؛ لأنَّ ذَلِكَ يوجِبُ قيامها بنفسها واحتمالها للصِّفات وأضدادها.
          ولو صحَّ ذَلِكَ لَمْ تكن إرادته له أَوْلى أَنْ تكون لغيره، وإذا فَسَدت هذه الأقسام الثلاثة ثبتَ كون الإرادة قديمةً قائمةً به وصحَّ كونه مريدًا ووجب تعلُّقها بكلِّ ما صحَّ كونه مرادًا له تَعَالَى، وهذه المسألة مبنيَّةٌ عَلَى صحَّة القول بأنَّه تَعَالَى خالقٌ لأفعال العِباد، وأنَّهم لا يَفعلون إلَّا ما يشاء، وقد دلَّ عَلَى ذَلِكَ بقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان:30]، وما تَلَاه مِن الآيات، وبقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا} الآية [البقرة:253] فنصَّ الله تَعَالَى عَلَى أنَّه لو شاءَ الله أن لا يَقْتَتِلُوا لَمَا اقتتلوا، فدلَّ أنَّه تَعَالَى شاء ما شاؤوه مِن أفعالهم، وأنَّه لو لَمْ يشأ اقتتالهم لَمْ يشاؤوه ولا كَاَنَ موجودًا، ثُمَّ أكَّد ذَلِكَ بقوله: {وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253].
          فدلَّ أنَّه فعل اقتتالهم الواقع منهم لكونه شائيًا له، وإذا كَاَنَ فاعلًا لاقتتالهم وجب كونه شائيًا لمشيئتهم وفاعلًا لها، فيثْبُت بهذه الآيَة أنَّه لا كَسْبَ للعبادِ طاعةً ولا معصيةً إلَّا وَهْوَ فعِلٌ له ومرادٌ له، وإن لَمْ يُرده منهم لَمْ يصحَّ وقوعه، وما أراده منهم فواجِبٌ وقوعه إذ هُوَ المتولِّي إيجاده، والمقدِّر لخلْقِهِ عَلَى اكتسابه، بخلاف قول القَدَريَّة إنَّه مريدٌ للطاعة مِن عباده وغير مُريدٍ للمعصية، وقد بانَ بهذا فساد قولهم، وأنَّ أفعال العِباد خَلْقُ الله تَعَالَى فِي هَذَا الباب وغيره.
          فَصْلٌ: قد تقرَّر إثبات الإرادة لله تَعَالَى والمشيئة، وأنَّ العِبَاد لا يريدون شيئًا إلَّا وقد سَبَقَت إرادة الله له، وأنَّه لا خالقَ لأعمالهم طاعةً كَانَت أَوْ معصيةً إلَّا هُوَ، وأمَّا تعلُّقهم بقوله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فِي أنَّه لا يريد المعصية، فليس عَلَى العُمُوم وإنَّما هُوَ خاصٌّ فيمن ذكر، ولم يكلِّفهُ ما لا يُطِيق قبيل هَذَا مِن المؤمنين المفترَضِ عليهم الصِّيام، ومَن هَدَاه الله إِلَى دِينهِ فقد يسَّره وأراد به اليُسر، فكان المعنى: يريد الله بكم اليُسر الَّذِي هُوَ التخيير بين صومكم فِي السَّفر وإفطاركم بشرط قضاء ما أفطرتموه مِن أيَّامٍ أُخر، ولا يريد بكم العُسر الَّذِي هُوَ إلزامكم الصَّوم فِي السفر عَلَى كلِّ حالٍ، فبان مِن نفس الآيَة أنَّ الله رفَعَ هَذَا العُسْر عنَّا ولم يُرِد وقوعه بنا، إذ لَمْ يلزمنا الصِّيام فِي السفر عَلَى كلِّ حالٍ رحمةً مِنْهُ، فسقط تعلُّقهم بالآية.
          وكذلك تأويلُ قوله تَعَالَى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] هُوَ عَلَى الخُصُوص فِي المؤمنين الذين أراد منهم الإيمان، فكان ما أراده مِن ذَلِكَ ولم يُرِد منهم الكُفر فلم يكن، فلا تعلُّق لهم فِي هذه الآيَة أيضًا.
          فَصْل: فإن قلت: قد سلف مِن قولكم: إنَّ الله تَعَالَى خالقٌ لأعمال العباد، فما وجه إضافة فتى موسى ♂ نِسيان الحوت إِلَى نفسه مرَّةً وإِلَى الشيطان أخرى؟
          فالجواب: أنَّ فتى موسى نبيٌّ وخادمُ نبيٍّ، وقد تقدَّم مِن قول موسى ◙ أنَّ أفعالَهُ مخلوقةٌ لله تَعَالَى فِي قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155]، فثبَتَ أنَّ إضافة النِّسيان إِلَى نفسه لأجل قيامه أنَّه مخترِعٌ له، والعرب تُضِيف الفعل إِلَى من وُجد به / وإن لَمْ يكن مخترعًا له، وقد نطق بِذَلِكَ القرآن فِي مواضعَ كثيرةٍ، وكذلك إضافته النِّسيان إِلَى الشَّيطان فليس عَلَى معنى أنَّ الشَّيطان فاعلٌ لنِسيانه. وإنَّما تأويله أنَّ الشَّيطان وَسْوسَ إليَّ حتَّى نسيتُ الحوت؛ لأنَّ فتى موسى إذ لَمْ يمكنه أن يفعل نِسيانه القائم به كَاَنَ الشيطان أبعدَ مِن أن يفعل فِيْهِ نِسيانًا، وكانت إضافته إليه عَلَى سبيل المجاز والاتِّساع.
          فَصْلٌ: قَالَ المهلَّب: وقوله ◙: (لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنْ شِئْتَ أَعْطِنِيْ) فمعناه _والله أعلم_ أنَّ سؤاله إيَّاه عَلَى شرط المشيئة يُوهم أنَّ إعطاء غير وجهه يمكن أَنْ يكون عَلَى غير مشيئتهِ، وليس بعدَ المشيئة وجهٌ إلَّا الإكراه، والله تَعَالَى لا مُكْرِه له كما قال ◙، والعبارة المُوهِمة فِي صفات الله تَعَالَى غير جائزةٍ عند أهل السُّنَّة؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِن الزَّيغ بأقلِّ توهُّمٍ يقع فِي نفس السَّامع لتلك العبارة.
          ثُمَّ إنَّ حقيقة السؤال مِن الله هُوَ أَنْ يكون السائل محتاجًا إِلَى الله تَعَالَى فيما سأل، محقًّا فِي سؤاله ومتى طلب بشرطٍ لَمْ يحقِّق الطلب؛ فلذلك أمرهُ الشارع بالعزْم فِي طلب الحاجة.
          فَصْلٌ: وأمَّا قول عليٍّ ☺: (إنَّ أنْفُسَنَا بِيَدِ اللهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا)، فِيْهِ: أنَّ إرادة العبد للعمل ولتركِهِ لا يكون إلَّا عَنْ إرادة الله تَعَالَى ومشيئته، بخلاف قول القَدَريَّة: أنَّ للإنسان إرادةً ومشيئةً دونَ إرادةِ اللهَ تَعَالَى، وقَد سَلَفَ أنَّ ذَلِكَ كلَّه مِن عمَلِ العبد مخلوقٌ لله تَعَالَى مرادٌ له عَلَى حسب ما أراد مِن طاعةٍ أَوْ معصيةٍ.
          فَصْلٌ: معنى قوله ◙: (المُؤمِنِ كَخَامَةِ الزَّرْعِ) أنَّ المؤمن يألَمُ فِي الدُّنيا بما يبتليه الله به مِن الأمراض التي يَمتحنه بها، فَيُيَسِّرُهُ للصبر عليها والرِّضا بحكم ربِّه واختباره له ليفرح بثواب ذَلِكَ فِي الآخرة. والكافر كلَّما صحَّ فِي الدُّنيا وسَلِم مِن آفاتها كَاَنَ موته أشدَّ عذابًا عليه وأعظمَ ألمًا فِي مفارقة الدُّنيا، فثبتَ أنَّ الله قد أراد بالمؤمن بكلِّ عُسرٍ يسرًا، وأراد بكلِّ ما آتاه الكافر مِن اليُسر عُسرًا، وقَد سَلَفَ كلامٌ فِي معنى هَذَا الحَدِيْث فِي أوَّل كتاب المرضى [خ¦5640].
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ) هُوَ بيِّنٌ فِي أنَّ الإرادة هي المشيئة عَلَى ما سلف بيانه، إذ التفضُّل عطاءُ مَن له أن يتفضَّل به وله أن لا يتفضَّل، وليس مَن كَاَنَ عليه حقٌّ فأدَّاه أَوْ فَعَل فاعلَه فِعله يُسمَّى متفضِّلًا، وإنَّما هُوَ مِن باب الأداء والوفاء بحقِّ ما لزمه.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (فَلَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ لَقَاتَلُوْا فُرْسَانًا أَجْمَعُوْنَ) وجهُهُ أنَّه لَمَّا نَسِي أن يردَّ الأمر لله الخلَّاق العليم، ويجعلَ المشيئة إليه كما شرطَ فِي كتابه إذْ يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [الإنسان:30] وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} [الكهف:23-24] فأشبهَ قوله: (لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ) قول مَن جعل لنفسه الحول والقوَّة فحَرَمَهُ الله مرادَهُ وما أَمَّلَهُ.
          فَصْلٌ: وأمَّا قوله للأعرابيِّ: (لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللهُ) فإنَّما أراد به بأسَهُ مِن مرضهِ فإنَّ الله يُكفِّر ذنوبه ويُقِيله ويُؤخِّر وفاته، فوقَعَ الاستثناء عَلَى ما رجا لَهُ مِن الإقالة والفَرَج؛ لأنَّ المرضَ معلومٌ أنَّه كفَّارةٌ للذُّنُوب وإن كَاَنَ الاستثناء قد يكون بمعنى ردِّ المشيئة إِلَى الله تَعَالَى، وفي جواب الأعرابيِّ ما يدلُّ عَلَى ما قلناه، وَهْوَ قوله: (بَلْ حمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ القُبُورَ) أَيْ: ليس كما رجوتَ مِن الإقالة.
          وقوله ◙: (فَنَعَمْ إِذًا) دليلٌ عَلَى قوله: (لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ) أنَّه عَلَى طريق الرَّجاء لا عَلَى طريق الخبر عَنْ الغيب، وكذلك قول عليٍّ ◙: ((إِنَّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنا حِيْنَ شَاءَ، وَرَدَّهَا حِيْنَ شَاءَ)).
          فَصْلٌ: وَحَدِيْث عُبَادةَ بن الصَّامت وَحَدِيْث أبِي هُرَيْرَةَ ☻ فِي قِصَّة موسى ◙، وَقَوْلُهُ: (فَلاَ أَدْرِي أَكَاَنَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَاَنَ مِمَّنْ استَثْنَى اللهُ) فيها كلُّها إثبات المشيئة لله.
          وفيه: فَضِيلة موسى ◙؛ لأنَّ الأمَّة أجمعت عَلَى أنَّ نبيَّنا عليه أفضلُ الصَّلاة والسلام أفضلُ البشر، فإن كَاَنَ لَمْ يُصْعَق موسى حين صَعِق النَّاس، ففيه: أنَّ المفضول قد تكون فِيْهِ فضيلةٌ خاصَّةٌ لا تكون فِي الفاضل.
          فَصْلٌ: واستثناء الشارع فِي دخول الدَّجَّال والطاعون المدينةَ فهو مِن باب التأدُّب لا عَلَى الشكِّ الَّذِي لا يجوز عَلَى الله تَعَالَى، ووجهه: التحريضُ عَلَى سُكناها لأمِّته ليحترسوا بها مِن الفِتنة فِي الدِّين؛ لأنَّ المدينة أصلُ بيتهِ فلم يُسلِّط الله عَلَى سُكَّانها المقيمين بها فتنة الدَّجَّال والطاعون؛ لاعتصام سُكَّانها بها من الفِتنة الكبرى وَهْوَ الكفر المستأصِلُ عقوبته، فكذلك لا يَستأصلهم بالموت بالطاعون الَّذِي كَاَنَ مِن عُقُوبات بني إسرائيل.
          فَصْلٌ: وقوله فِي الصِّدِّيق: أنَّه (نزَعَ مِن البئر ما شاء الله أن يَنْزِع). فهذا استثناءٌ صحيحٌ، وأنَّ حركات العباد لا تكون إلَّا عن مشيئة الله تَعَالَى وإرادته.
          وكذلك قوله: (وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ) أَيْ: إنَّ الإنسان لا يتكلَّمُ إلَّا بمشيئة الله المحرِّك للسانه والمقلِّب لقلبِهِ.
          وكذلك قوله:(إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ) فاستثناءٌ فيما يُستقبل مِن الأفعال كما أمره الله بردِّ الحول والقُوَّة إليه فِي قوله:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ} الآية [الكهف:23].
          فَصْلٌ: وقوله فِي حَديث عليٍّ ☺: (أَلاَ تُصَلُّونَ؟) حرصًا مِنْهُ عَلَى أن يفعل الخير، وكَرِه مِن عليٍّ اعتذارَهُ دون احتجاجه بما ذكر؛ لأنَّ الأصل أن لا يَنْسِب العبد إِلَى نفسه تقصيرًا، وإن كَاَنَ لَمْ يَخْرُج عَنْ قُدرة الله.
          وفيه مِن الفوائد: زيارة الرَّجُل ابنتَه وزوجَها.
          فَصْلٌ: فِي حَديث أبِي هُرَيْرَةَ ☺، ضرْبُ ما تَفعل الرِّيح بالخامة مِن الزَّرْع مَثَلًا للمؤمن؛ لأنَّه يُسرُّ مرَّةً ويُبتلى مرَّةً ليُثاب، ومعنى (تُكَفِّئُهَا): تُمِيلها.
          قَالَ الجَوْهَرِيُّ: كَفَأتُ الإناءَ: قَلَبْتُهُ. وزَعَم ابن الأعرابيِّ أنَّ أَكْفَأتُهُ لغةٌ، وقال عَنْ الكِسَائيِّ: كَفَأت الإناءَ وأَكْفَأتُهُ: أَمَلْتُهُ، قال: ولهذا قيل: أَكْفَأتُ القوس: إِذَا أَمَلْت رأسها، ولم يَنْصِبها نَصْبًا حتَّى يرميَ عنها، ورُوي: ((طاقة)) وهي: الطَّائفة، ذكره القزَّاز.
          وَقَوْلُهُ: (كَالأَرْزَةِ) قيل: هُوَ ضرْبٌ مِن الشَّجر صُلْبٌ يُقال له: الأَرْز، وقيل: واحدُ الأرز، وَهْوَ حبٌّ معروفٌ. وقال أَبُو عُبَيدةَ: الأرْزة _بسكون الراء_ شجرةُ الصَّنوبر، وقال أَبُو عَمْرٍو: الأَرَزَة بالتحريك: شَجَرُ الأَرز. /
          وقَالَ الدَّاودِيُّ: الأَرْزَةُ مِن أعظم الشَّجر لا تَمِيل بالرِّيح لكبرها ولا تهتزُّ بأسفلها، ورواه أصحاب الحَدِيْث بإسكان الرَّاء، ورُوي ((كَمَثْلِ الآرِزَة)) عَلَى وزن فَاعِلةٍ يريد كمثل الشَّجرة الثابتة، ورُوي بتحريك الراء.
          فَصْلٌ: وَحَدِيْث ابن عُمَر ☻: (إِنَّمَا بَقَاؤكُمْ...) إِلَى آخره خرجَ مخرجَ العُمُوم وأُريد به الخُصُوص، أُريد به اليَهُود والنَّصارى.
          قَالَ الدَّاودِيُّ: وفي هَذَا الحَدِيْث بعض الوَهَم وَهْوَ قوله: (فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا).
          قوله: (فَعَجَزُوا) هُوَ وَهَمٌ مِن بعض الرُّواة لأنَّ مَن عَجَز لَمْ يُعطِ شيئًا، وإنَّما أعطى منهم مَن كَاَنَ عَلَى الإسلام وليس أولئك بالعاجزين، فضرَبَ بأولئك المثَلَ أنَّهم استُعملوا إِلَى صلاة الظُّهر وأخذوا قِيراطًا قِيراطًا، وأنَّ الذين عَجَزوا قالوا فِي موضعٍ آخر: قالوا: (لاَ حَاجَةَ لَنَا) فأولئك لَمْ يُعطوا شيئًا وهم كَفَرةُ أهل الكتاب استعمل اليَهُود النَّهار كلَّه عَلَى قِيْرَاطٍ قيراطٍ فلمَّا كَاَنَ الظُّهر ملُّوا، فقالوا: لا حاجة لنا، واستُعمل النَّصارى إِلَى اللَّيل فلمَّا كَاَنَ العصر قالوا: لا حاجة لنا فِي الأجْرِ، فاستُعمل المسلمون مِن العصر إِلَى المغرب عَلَى قيراطين قيراطين، وَضَرب غُرُوبَ الشَّمس مثلًا لقيام السَّاعة، فَوَفوا فأُعطوا قِيراطين، فذهبوا بالأجْرِ كلِّه وُحُرِمَ مَن كَفَر.
          فَصْلٌ: استدلَّ ابن جَريرٍ بهذا الحَدِيْث عَلَى ما بقي مِن الدُّنيا بأنَّه نِصْف سُبعها، فقال: مثَلَكُم وَمَثَلُ ما خلا مِن الأمم، وسكتَ عَنْ ذكر اليَهُود والنَّصارى ثُمَّ قال: وما قدر ما بَقِيَ مِن النَّهار مِن آخر صلاة العَصَر إِلَى الغروب قَدْر نِصْف سُبع النَّهار.
          واعترضه الدَّاودِيُّ فقال: لو تدبَّر ما قال لَمْ يَهْجُم عَلَى القول فيما غُيِّب عِلْمه عَنْ جميع خلقِهِ حتَّى عمَّن يَنْفُخُ فِي الصُّور، قال ◙ لعُمَر: ((وكيف أَنْعَمُ وإسْرَافيلُ قد التَقَم الصُّور يَنْتَظِر ما يُؤمر به؟!)) والله تَعَالَى يقول: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا} الآية [الأعراف:187].
          وقوله: (هؤلاء أقلُّ عَمَلًا وأكثرُ أجرًا) احتُجَّ به لأبي حنيفة فِي أنَّ وقت العصر أَنْ يكون الظلُّ قامتَين.
          ومذهبنا ومذهب مالكٍ أنَّ أوَّل وقت العصر أوَّلُ القامة الثانية، وانفصل بعض المالكيَّة عن ذَلِكَ لسببين:
          أحدهما: أنَّه قال: هَذَا الحَدِيْث لَمْ يُقصد فِيْهِ تبيين الأوقات، وَحَدِيْث المواقيت قد بيَّن أنَّه ◙ صلَّى العصر أوَّل يوم القامة الثانية، وفي الثاني آخرها، ثُمَّ قَالَ: (مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ).
          والثاني: أنَّه إِنَّمَا قَالَ: (أَقَلُّ عَمَلًا) فِي مقابلة ما أُعطوا مِن الأجور؛ لأنَّ القِيراطين إذَا قُسطا عَلَى ما بقي مِن النَّهار كَاَنَ الَّذِي ينوبُ كلُّ قِيراطٍ أقلَّ ممَّا عَمِله أهل الكتابين، وهذا إِنَّمَا هُوَ اعتبارٌ عمَّا وقع فِي الحَدِيْث الآخر: (وَقَالَتِ الْيَهُوْدُ وَالنَّصَارَى: مَا لَنَا أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ أَجْرًا) وأمَّا عَلَى ما فِي هَذَا الحَدِيْث: (فَقَالَتِ الْيَهُوْدُ: رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَقَلُّ عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا) فهو بيِّنٌ؛ لأنَّ عَمَل اليَهُود أكثر، ولعلَّ هَذَا هُوَ الصَّحيح أنَّ النَّصارى لَمْ يقولوا ذَلِكَ.
          فَصْلٌ: الرَّهط فِي حَديث عُبَادة ☺: ما دون العَشَرة مِن الرجال لا يكون فيهم امرأةٌ، والبُهتان فِيْهِ نحو المذكور فِي الآَيَة، فقيل: الولد. وقيل: بين أيديهن: ألسنتهنَّ، وبين أرجلهنَّ: فروجهنَّ _بما كَسَبت أيديكم_ والمعروف: النَّوح أَوْ الخَلْوة بغير مَحْرَمٍ، وكلُّ حقٍّ معروفٍ لله.
          وَقَوْلُهُ: (فَهُوَ كَفَّارَةٌ وَطَهُوْرٌ) يُعارض هَذَا ما وقعَ فِي آية المحاربين وهي: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} الآية [المائدة:23] فمن قَالَ: الآَيَة فِي الكفَّار فذلك خارجٌ عن هَذَا، ومن قَالَ: هي عامَّةٌ بين المسلمين وغيرهم، وَهْوَ قول مالكٍ فيكون مخصوصًا بالمحاربة.
          قَالَ الدَّاودِيُّ: وفيه حجَّةٌ عَلَى المعتزلة والمُرْجِئة وعلى مَن لا يقول بقبول الأعمال مَعَ اشتراط الدَّوام عَلَى الإيمَان إِلَى أنْ يموت صاحبه، قال تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الآية [الأنبياء:94].
          فَصْلٌ: وفِيْهِ: أنَّ (طَهُورًا) معناه: مطهَّرٌ، وَهْوَ حجَّةٌ عَلَى أبي حنيفة فِي الطَّهور أنَّه الطَّاهر.
          فَصْلٌ: اختلفت الرِّواية فِي قِصَّة سُليمان ◙ المذكورة هنا، فهنا (سِتُّون) وقيل: ((مائة))، وقيل: ((تِسعون))، ورُوي ((سبعون)).
          وذكر الدَّاودِيُّ أنَّ فِي غير هَذِه الكُتُب أنَّه كَاَنَ له ألفٌ امرأةٍ منهنَّ سبعمائة سَرِيةٍ وثلاثمائة مُهْدَيات، وأنَّه طافَ عليهنَّ.
          فَصْلٌ: وقوله: (لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ، ولَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ)، وفي بعض الروايات: ((فقال له الملَك: قل: إن شاء الله))، فلم يقل مَعَ حرصه عَلَى الخير وأن يُخرج مِن صُلبه مَن يُجَاهِد إِذْ لَمْ يقل: إن شاء الله مَعَ ما سبق فِي عِلْم الله مِن ذَلِكَ كلِّه.
          فَصْلٌ: قوله فِي حَديث أبي قَتَادَة ☺: (إِنَّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ) فِيْهِ دليلٌ أنَّ الروح هُوَ النَّفْس، وَهْوَ قول أكثر الأئمَّة. وقال ابن حَبِيبٍ وغيره: الرُّوح بخلافها، فالرُّوح هُوَ النَّفس المتردِّد الَّذِي لا يبقى بعده حياةٌ، والنَّفْس هي التي تلذُّ وتألَمُ وهي التي تتوفَّى عند النوم، فسمَّى النَّبِيُّ صلعم ما يَقْبِضُهُ فِي النوم رُوحًا، وسمَّاه الله فِي كتابه نَفْسًا فِي قوله: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42].
          وَقَوْلُهُ: (وَتَوَضَّئُوا إِلَى أَنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَضَّتْ، فَقَامَ فَصَلَّى) كذا هنا، وقال فِي خبر بلالٍ حين كلأ لهم: ((لَمْ يُوقِظُهم إلَّا الشَّمس)).
          قَالَ الدَّاوُدِيُّ: إمَّا أَنْ يكون هَذَا يومًا آخرَ أَوْ يكون فِي أحد الخبرَين وَهَمٌ. قلت: لا، وقد أسلفنا ذَلِكَ واضحًا، وَهَذَا دليلٌ لمن يقول: لا تُقضى الصَّلاة المنسيَّة / فِي الأوقات المنهيِّ عن الصَّلاة فيها، ومذهبنا ومذهب مالكٍ خِلاف ذَلِكَ أنَّها تُقضى كلَّ وقتٍ، ومذهب أبو حنيفة لا يجوز ذلك إلَّا أنَّه وافق في صلاة اليوم أنَّها تقضى حينئذٍ، ولا حُجَّة له فِي هَذَا الحَدِيْث. قلت: لأنَّ فِيْهِ أنَّه ما أيقظهم إلَّا حَرُّ الشَّمس إذَا جعلنا القِصَّة واحدةً.
          فَصْلٌ: وقوله فِي حَديث أَبِي هُرَيْرَة ☺: (اسْتَبَّ رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَيَهُوْدِيٌّ) وفي موضِعٍ آخرَ: سمع اليهوديَّ يقول ذَلِكَ فأَخَذته غَضْبةٌ فأَدْمَى وَجْهَهُ.
          وقوله: (لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى) وفي روايةٍ أخرى: ((لا تخيِّرُوا بين الأنبياء)) قد سَلَف وجه الجمع فِيْهِ [خ¦241].
          قَالَ الدَّاوُدِيُّ: فِي بعض هَذِه الرواية وَهَمٌ، وكذلك فِي أكثر الروايات فِي هَذَا الحَدِيْث فِي هَذِه الكُتُب لا بدَّ أَنْ يدخلها بعض الوَهَم، قَالَ: والوَهَمُ هنا فِي قوله: (فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ) إِلَى: (فَلاَ أَدْرِي أَكَاَنَ مِمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِيْ) هَذَا وَهَمٌ، قَالَ: وبيَّن ذَلِكَ فِي أكثر الروايات، فقال: ((ينفخ فِي الصُّور فَيَصْعَقُ النَّاس، ثُمَّ يُنفخ فِيْهِ أخرى فأكون أوَّلُ مَن تنشقُّ عنه الأرض، فإِذَا موسى آخِذٌ بقائمةٍ مِن قوائم العرش، فَلاَ أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَوْ كَاَنَ مِمَّنْ استَثْنَى اللهُ)).
          وفي روايةٍ أخرى: ((أَوْ جُوزي بِصَعقة الطُّور)).
          قَالَ: وهذا هُوَ الصَّحيحُ لأنَّ الصَّعقة حينئذٍ إِنَّمَا هي الموت، وإنَّما يموت الأحياء ليس مَن قد مات، فأخبر أنَّه أوَّلُ مَن تنشقُّ عنه الأرض _يعني: عن جُثَّتِهِ_ وشكَّ فِي الإفاقة وهي رجوعُ الرُّوح فِيْهِ، فلا يدري أكان هُوَ أوَّل أَوْ موسى، فإن كَاَنَ المحفوظ: (أَوْ كَاَنَ مِمَّنْ استَثْنَى اللهُ) فمعناه أَوْ جعله الله لي ثانيًا، وإن كَاَنَ المحفوظ: (أَوْ جُوزي بالصَّعقة فَلاَ أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي) هل فعلَ ذَلِكَ إكرامًا له أَوْ جازاه بالصَّعقة التي كَانَت يوم طُوْرِ سَيْنَاءَ، وقَول الدَّاوُدِيُّ: (استَثْنَى اللهُ) أَيْ: جعلَهُ الله لي ثانيًا. قال جماعةٌ: بل أراد قوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ} [الزمر:68].
          فَصْلٌ: وفي حَديث أنسٍ ☺: فضْل المدينة، واحتجَّ به مَن فضَّلها عَلَى مكَّة أيضًا بخصوصها بهذا دونَ مكَّة.
          فَصْلٌ: وَحَدِيْث أَبِي هُرَيْرَة ☺: (أَخْتَبِيَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ). فِيْهِ: الردُّ عَلَى المعتزلة المنكرين للشَّفاعة المقتحمين عَلَى ردِّ ما رُوي فِي ذَلِكَ مِن الأخبار عَلَى كثرتها واشتهارها وخروجها مِن حيِّز أخبار الآحاد، واجترأ قومٌ منهم عَلَى أَنْ قالوا: لا يشفع رَسُوْل اللهِ صلعم ولو شفع ما قُبلت مِنْهُ، مشاقًّا للأمَّة وخروجًا عن الجماعة، وَهْوَ ◙ مخصوصٌ بالشَّفاعة للذين ماتوا مِن أمَّته عَلَى غير توبةٍ أَوْ مِن المذْنبِين، إذَا قلنا: إنَّ التوبة لا ترفعُ العِقاب عَلَى الذَّنب.
          وعند بعض الأشعرَيَّةِ إنَّها تكون فِي الموقف تخفيفًا عمَّن يحاسَبُ، وتكون فِي إخراج قومٍ مِن النَّار حتَّى لا يَبقى فيها مؤمِنٌ ويكون للرَّاحة مِن الموقف، ونقضَ بعضهم زيادة النَّعيم، وقال: لَمْ يَرِدْ فِي خبرٍ، قال أهل التفسير فِي قوله تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2]: ذَلِكَ حين يَخرج المسلمون مِن النَّار بالشَّفاعة.
          فَصْلٌ: والقَلِيب فِي حَديث أَبِي هُرَيْرَة ☺: البِئر قبل أَنْ يُطوى، يُذكَّر ويُؤنَّث، قاله الجَوْهَرِيُّ، وقال: عن أبي عُبَيدٍ: هي: البِئرُ العَاديةُ القديمة. والذَّنُوب: الدَّلو الملأى ماءً.
          وقال ابن السِّكِّيت: فيها ماءٌ قريبٌ مِن الملء، تُؤنَّث وتُذكَّر. ولا يُقال لها وهي فارغةٌ: ذَنُوب، والغَرْبُ: الدَّلو العظيمة.
          فَصْلٌ: اللُّقيُّ فِي حَديث ابن عبَّاسٍ ☻ مصدر لَقِي لقيًّا مثل خَرَج خروجًا، فلمَّا التقى حرفا علَّة وسُبق الأوَّل بالسكون قُلبت الواو ياءً، وأُدغمت فِي الياء الأخرى، وكُسرت الياء لتصحَّ الياء.
          وقوله: (هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ فَقَالَ: لاَ)، هَذَا الذي يُظنُّ بموسى؛ لأنَّه سُئل عن عِلمه. وهذه رواية عُبَيد الله عن ابن عبَّاسٍ، ورواية سَعِيد بن جُبَيرٍ: ((هل أحدٌ أعلمُ منك؟ قَالَ: لا، فعَتَب الله عليه)).
          قَالَ الدَّاوُدِيُّ: والأَوْلَى أَنْ يُحمل عَلَى موسى أنَّه قال الصِّدق، قَالَ: ولو قال: لا، ولم يَقُل له: هل تعلم أحدًا لدخل فِي قوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:46].
          وقوله: (فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الحُوتَ آيَةً) أَيْ: علامةً عَلَى ما يريد، وذلك أنَّه حمَلَ حوتًا كانا يأكلان مِنْهُ هُوَ وفتاه يُوشَعُ، فلمَّا فقد نِصْفه تلقاءَ الصَّخرة فنامَ موسى وجَلَس يُوشَعُ فوثَبَ الحوت مِن المِكْتَل، فاتَّخذ سبيله فِي البحر وكان طريقه كالطَّاق، فلم يُوقِظ يُوشَعُ موسى حتَّى انتبه، فنسِيَ يُوشَع أَنْ يَذكُرَ له أمر الحوتِ، فانطلقا يومهما وليلتهما فوجَدَ موسى الإعياء، فقال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا}، فذكر يُوشَع فقال: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}، فكان سبيلُ الحوت فِي البحر سَرَبًا، وكان لموسى وفتاه عَجَبًا.
          وقوله: ({فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا}) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: كَاَنَ موسى يتَّبِع أثر الحوت، أَيْ: ينظر إليه في السَّاحل يسيرُ معه حتَّى انتهى إِلَى الخَضِر ◙، ليس أنَّه سلكَ فِي أثره فِي البحر. قَالَ: ولو كَاَنَ كذلك لقال: سلكَ أثرَ الحوت.
          فَصْلٌ: وقوله فِي حَديث عَبْد اللهِ بن عَمْرٍو ☻: (إِنَّا قَافِلُونَ) أَيْ: راجعون.