التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى

          ░1▒ باب مَا جَاءَ فِي دُعَائِهِ ◙ أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى.
          7371- 7372- ذَكَرَ فِيْهِ حَديث بعْثِ مُعَاذٍ ☺: (إِنَّكَ تَأتِي عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلى أَنْ يُوَحِّدُوا الله) الحَدِيْث بطوله، وقد سلف فِي الزَّكَاة [خ¦1395].
          7373- وَحَدِيْث مُعَاذٍ ☺: (أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ؟ أَنْ يَعبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ...) الحَدِيْث.
          7374- وَحَدِيْث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ☺: أنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يقرأُ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاَءَ إِلَى رَسُوْل اللهِ صلعم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ _وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّها_ فَقَالَ ◙: (وَالَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرآَنِ).
          زَادَ إِسْماعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ _يعنِي شيخ البُخَارِيِّ_ عَنْ مالكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحمَنِ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي سَعِيْدٍ _أَيْ: كما أسلفه فِي الأوَّلِ_، وزاد قَالَ: أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعمَانِ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم.
          7375- وَحَدِيْث عَائِشَة ♦: «أنَّه ◙ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ». الحَدِيْث سلف [خ¦7375].
          ووجه ذكره هَذَه الأحاديث هنا ما اشْتَمَلَت عليه مِن التوحيد، وكذا ذكره {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]؛ لأنَّها سورةٌ تشتمِلُ عَلَى توحيد الله وصِفاته الواجبة له وعلى نفي ما يَستحيل عليه مِن أنَّه لَمْ يلد ولم يولد ولم يكن له كُفوًا أحد.
          وتضَمَّنَت ترجمة الباب أنَّ الله واحدٌ وأنَّه ليس بجسمٍ لأنَّ الجسمَ ليس بشيءٍ واحدٍ، وإنَّما هي أشياءُ كثيرةٌ مؤلَّفَةٌ، فِي نفسِ الترجمة الردُّ عَلَى الجَهْمِيَّةِ فِي قولها: إنَّه تَعَالَى جِسْمٌ. تَعَالى الله عن قولهم، والدَّليل عَلَى استحالة كونه جسمًا أنَّ الجِسْم موضوعٌ فِي اللُّغة للمؤلَّف المجتمِع وذلك مُحَالٌ عليه تعالى؛ لأنَّه لو كَاَنَ كذلك لَمْ ينفكَّ عن الأعراض المتعاقبة عليه الدَّالة بتعاقُبِها عليه عَلَى حَدَثِها لفَنَاءِ بعضها عند مجيء أضدادها، وما لَمْ ينفكَّ عن المُحْدَثات فَمُحْدَثٌ مِثلها، وقد قام الدَّليل عَلَى قِدَمِه تَعَالَى فبَطَلَ كونه جسمًا.
          فَصْلٌ: ينبغي أَنْ يُعتقد أنَّ الله تَعَالَى فِي عَظَمَتِه لا يُشبه شيئًا مِن مخلوقاته ولا يُشَبَّهُ به، وأنَّ ما جاء ممَّا أطلقه الشَّرع عَلَى الخلْقِ والمخلوقات فلا تشابُهَ بينهما فِي المعنى الحقيقي؛ إذ صِفات القديم بخلاف صِفات المخلوق، فكما أنَّ ذاته لا تشبُهُ الذَّوات، فكذلك صِفته لا تشبُهُ صِفات المخلوقين؛ إذ صِفَاتهم لا تنفكُّ عن الأعراض، و الأعراض هُوَ تَعَالَى منزَّهٌ عنها.
          قال بعضهم: التَّوحيد إثباتُ ذاتٍ غير مُشْبِهَةٍ للذَّوات ولا مُعَطَّلَةٍ عن الصِّفات.
          وقال الواسطِيُّ: ليس كذاته ذاتٌ، ولا كاسمه اسمٌ، ولا كفعله فِعْلٌ، ولا كصِفَته صِفةٌ إلَّا مِن جهة موافقة اللَّفظِ اللَّفظَ، وجلَّت الذَّات القديمة أَنْ تكون لها صِفةٌ حديثةٌ، كما استحال أَنْ يكون للذَّات المحدَثَةِ صِفةٌ قديمةٌ، مَن اطمأنَّ إِلَى موجودٍ انتهى إليه فِكره فهو مشبِّهٌ، ومَن اطمأنَّ إِلَى النَّفي المحض فهو مُعَطِّلٌ، وإن اعترف بموجودٍ، اعترف بالعجز عن درَكِ حقيقته فهو موحِّدٌ.
          وقال ذو النُّون: حقيقة التَّوحيد أَنْ تعلمَ أنَّ قُدرة الله فِي الأشياء بلا عِلاجٍ، وصُنعه لها بلا مزاجٍ، وعلَّة كلِّ شيءٍ صَنَعه ولا علَّة لصُنعِهِ، وما تصوَّر فِي وَهَمك فالله بخِلافِهِ.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ ◙ لمعاذٍ: (فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِليهِ أَنْ يُوَحِّدُوا الله) يريد: ويَنْزِعُون عن مَقَالتهم: عُزَيرٌ ابن الله، والمسيح ابن الله، ويقرُّون أنَّ الله واحدٌ لا شريكَ له، وذلك كلُّهُ راجِعٌ إِلَى التَّوحيد.
          فَصْلٌ: وفِيْهِ: الدَّعوة قبل القتال، واختُلِف فيمن بلغته الدَّعوة، هل يُدعى أم لا؟
          ففي «المدوَّنة» روايتان عن مالكٍ، وأمَّا مَن لَمْ تبلغهم فلا يُقَاتلوا حتَّى يُدعَوا فإن شكَّ فِي أمرهم، فالدَّعوة أقطَعُ للشكِّ، وقَالَ أبُو حنيفة: إن بَلَغَتهم فحَسَنٌ أَنْ يُدْعَوا قبل القتال، / وقال الشَّافعِيُّ: لا أعلم أحدًا مِن المشركين لَمْ تبلغْهُ الدَّعوة إلَّا أَنْ يكون خلفَ الَّذِيْنَ يقاتلون قومٌ مِن المشركين خَلْف التُّرْك والخُوز لَمْ تبلغْهُمُ الدعوة فلا يُقاتَلوا حتَّى يُدْعَوا.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ)، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: يريد لا تُفَاجئهم فِي ذَلِكَ، وظاهر الحَدِيْث أنَّه يفعل بهم عَقِب معرفتهم.
          قال ابن العطَّار فِي «دقائقه»: فإذا أجاب بالإسلام وأقرَّ برسالة مُحَمَّدٍ عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام، ووقَفَ عَلَى الشرائع والأحكام وحُدُود الوُضُوء والصَّلاة والزكاة والصِّيام والحجِّ مَعَ الاستطاعة إِلَى بيت الله الحرام، فإن لَمْ يلتزم ذَلِكَ لَمْ يُقبل إسلامه ولا يكون بِذَلِكَ مُرْتدًّا بخِلاف مَن صلَّى ثُمَّ ارتدَّ، فإنَّه إنْ صلَّى صلاةً واحدةً وارتدَّ فإنَّه يُستتاب حينئذٍ، فإن تاب وإلَّا قُتل.
          وقال بعض متأخِّريهم: إذَا أقرَّ بالإلهيَّةِ والوحدانيَّة وأنكَرَ الصَّلاة أَوْ الصَّوم أَوْ الحجَّ كَاَنَ عَلَى حكم المرتدِّ، ولا تُقبل مِنْهُ جزيةٌ إن بَذَلها ليبقى عَلَى ما كَاَنَ عليه قبلَ ذَلِكَ.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (زَكَاةً تُؤخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِم فَتُردُّ عَلَى فُقَرَائِهِم) فِيْهِ دليلان:
          أحدهما: أنَّ مَن له نِصَابٌ فهو غنيٌّ لا يجوز له أخذ الزكاة، وَهْوَ قول مالكٍ فِي رواية المغيرة، وبه قال أبُو حنيفةَ، ولمالكٍ عند مُحَمَّدٍ يأخذ مَن له أربعون دينارًا.
          وثانيهما: أنَّ الزكاة لا تُنقل، وإنَّما تُصْرف فِي فقراء الموضع الَّذِي تُؤخذ مِنْهُ، فإن خالف فالأصحُّ عدم الإجزاء عندنا، وإن كَاَنَ دون مسافةِ القَصْر. وقال سُحنُون: إِذَا كَاَنَ بقريته فُقَراء، وقال ابن اللَّباد: يُجزئه، وهذا استحسانٌ، وقد أشار نحوه ابن القصَّار، واختلف عندهم هل يَستأجر عليها منها أَوْ مِن ماله.
          فَصْلٌ: قَالَ الدَّاودِيُّ: فِيْهِ تأخير البيان بأنَّ الفروض لَمْ تلزم مَن لَمْ يسمعها حتَّى يَسمع، وأنَّه لا قضاء عليه فيما يقضي.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوالِ النَّاسِ) أَيْ: اجتنب خِيَار مواشيهم أَنْ تأخذها فِي الزَّكاة، وكَرَائِم: جمع كَرِيمةٍ، وَهْي الشَّاة الغَزِيرة اللَّبن، واختُلِف إِذَا كَانَت جِيَادًا كلَّها أَوْ رديئةً كلَّها وسِخالًا عَلَى أربعة أقوالٍ للمالكيَّة، ففي «المدوَّنة»: يأتي زكاتها مِن غيرها.
          وقال مُحَمَّد بن عبد الحكم: لولا خِلاف أصحاب قول مالكٍ لكان بيِّنًا أَنْ يأخذ واحدةً مِن أوساطها، وقال مُطَرِّفٌ فِي «ثمانية أبي زيدٍ»: إِذَا كَانَت جيِّدةً أَوْ سِخالًا لا يأخذ منها وإن كانت عِجَافًا أو ذوات عَوَارٍ أو تيوسًا أخذ منها. وقال ابن الماجِشُون: تُؤخذ مِن الجيِّد والرديء إلَّا أَنْ تكون سِخَالًا.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ) يريد: حقًّا عُلم مِن جهة الشرع بوعدِهِ لمن أطاعَهُ بالنجاة مِن عذابه إلَّا أنَّه واجب عَقْلًا عند المعتزلة.
          وقيل: إنَّه خرج عَلَى الجهة المقابلة للفظ الأوَّل لأنَّه قَالَ فِي أوَّلِهِ: (مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ؟).
          ولا شكَّ أنَّ لله تعالى عَلَى عباده حقوقًا، فأتبَعَ اللفظ الثاني الأوَّلَ مثل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} [آل عمران:54]، {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة:194].
          فَصْلٌ: ومعنى (يَتَقَالُّهَا): يَسْتقلُّها مِن قلَّ الشيء يَقِلُّ قِلَّةً، ولو كَاَنَ مِن القول لكان يتقَوَّلُها.
          وَقَوْلُهُ: (تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرآَنِ) أَيْ: فِي الأجْرِ، لا أنَّ شيئًا مِن القرآن أفضلُ مِن شيءٍ عَلَى أحد القولين؛ لأنَّه كلَّه صِفةٌ لله تعالى.
          وقيل: المعنى فِي ذَلِكَ: أنَّ الله تعالى يتفضَّلُ بتضعيف الثواب لقارئها، ويكون مُنتهى التضعيف إِلَى مقدار ثُلُث ما يستحقُّ مِن الأجر عَلَى قراءة ثُلُث القرآن مِن غير تضعيفِ أجْرٍ.
          وقيل: المعنى فِي ذَلِكَ أنَّ القرآنَ عَلَى ثلاثة أنحاءٍ قصصٌ وأحكامٌ وأوصافٌ لله تعالى، و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تشتمِلُ عَلَى ذِكر الصِّفات وكانت ثُلُثًا بهذا الاعتبار، وقيل: معنى ثُلُث القرآن لشخصٍ بعينِهِ قصَدَهُ الشارع وَهْوَ بعيدٌ، وقيل: فَضُلت بذلك؛ لأنَّه ليس فيها شيءٌ مِن العمل إنَّما هي توحيدٌ محضٌ.
          وقوله ◙: (سَلُوهُ) يحتمل أَنْ يكون سؤالهم إيَّاه لأنَّه ◙ هُوَ الَّذِي أمره.
          وَقَوْلُهُ: (لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ) أَيْ: لأنَّ فيها أسماءَه وصفاتِهِ، وأسماؤه مشتقَّةٌ مِن صِفاتهِ.
          وَقَوْلُهُ: (أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ) أَيْ: يريد ثوابه؛ لأنَّه تعالى لا يَوصَف بالمحبَّة الموصوفة فيها لأنَّه يتقدَّسُ عَنْ أَنْ يميل أَوْ يمال إليه، وليس بذي جنسٍ أَوْ طبعٍ فيتَّصِف بالشوق الَّذِي تقتضيه الجنسيَّة والطبعيَّة، فمعنى محبَّتِهِ للخَلْق: إرادته ثوابهم، وقيل: المحبَّةُ راجعِةٌ إِلَى نفس الإنابة والتَّنعيم لا لإرداةٍ، ومعنى محبَّة المخلوقين له أراد بهم أَنْ يَنفعهم.
          خاتِمَةٌ: أمَرَ الله تعالى نبيَّهُ ╕ بدُعاء العِبَاد إِلَى دينه وتوحيده، ففعلَ ما لَزِمه مِن ذَلِكَ، وبلَّغَ ما أُمر بتبليغه، وأُنزل عليه {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54].