التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها

          ░51▒ باب مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّورَاةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ اللهِ بِالعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا لِقَوْلِ اللهِ تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]
          7541- وقال ابن عبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا تُرْجُمَانَهُ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيَّ صلعم فَقَرَأَهُ: (╖، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ إِلَى هِرَقْلَ، وَ{يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا} الآية [آل عمران:64]).
          وَهَذَا قد سلف مُسندًا أوَّل الكِتَاب [خ¦7].
          7542- ثُمَّ ساق حَديث أبِي هُريرَة ☺: كَاَنَ أهل الكِتَاب يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلامِ، فَقَالَ ◙: (لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَاب ولا تُكَذِّبُوهُم وَ:{قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ} الآية [آل عمران:84]).
          7543- وحَدِيث ابن عُمَر ☻: (أنَّه ◙ أُتِيَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ اليَهُودِ قَدْ زَنَيَا...) الحَدِيث، بإحضار التَّوراة، ووضعِ الأعورِ يدَه عَلَى آية الرَّجم، ولا شكَّ أنَّ تفسير كُتُب الله بالعربيَّة جائِزٌ، وقد كَاَنَ وَهْبُ بن مُنبِّهٍ وغيره يترجمون كُتُب الله إِلاَّ أنَّه لا يَقطع عَلَى صِحَّتها؛ لقوله ◙: (لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ) فيما يفسِّرونَهُ مِن التوراة بالعربيَّةِ لثُبُوت كتمانهم لبعض الكِتَاب وتحريفِهم. /
          واحتجَّ أبُو حنيفة بحديث هِرَقْلَ وأنَّه دعا تُرْجُمانَه وترجمَ له كتاب رَسُول اللهِ صلعم بلسانِهِ حَتَّى فَهِمه، فأجاز قراءة القُرآن بالفارسيَّةِ، وقال: إنَّ الصَّلاة تصحُّ بِذَلِكَ، وخالفَهُ سائر الفقهاء وقالوا: لا تصحُّ الصلاة بها.
          وقال أبُو يوسُفَ ومحمَّدٌ: إن كَاَنَ يحسنُ العربيَّةَ فلا تُجْزِئه الصَّلاة، وإن كَاَنَ لا يُحْسِنُ أجزأه.
          مِن حُجَّة أبي حنيفة أنَّ المقروء يُسمَّى قرآنًا وإن كَاَنَ بلغةٍ أخرى إِذَا بيَّن المعنى و لَمْ يُغَادر مِنْهُ شيئًا، وإن أتى بما لا يُنبئ عنه اللَّفظ نحو الشكر مكانَ الحمد لَمْ يَجُز، واستدلُّوا بأنَّ الله تعالى حكى قول الأنبياء بلسانهم بلسانٍ عربيٍّ فِي القُرآن كقول نوحٍ: {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:42]، وأنَّ نوحًا قال هَذَاَ بلسانه، قالوا: فكذلك يجوز أَنْ يحكي القُرآن بلسانهم، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] فأنذَرَ به سائر النَّاس، والإنذار إِنَّمَا يكون بما يَفْهمونه مِن لسانهم، فقراءةُ أهل كلِّ لغةٍ بلسانهم حَتَّى يقع لهم الإنذار به، وإذا فسَّر لهم بلسانهم فقد وقعَ الإنذار به، وإذا فسَّر لهم بلسانهم فقد بَلَغهم، وسُمِّي ذَلِكَ قرآنًا، وكذلك الإيمان يصحُّ أَنْ يقع بالعربيَّةِ وبالفارسيَّةِ.
          وحُجَّة العلماء غيره قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2] فأخبرَ تعالى أنَّه أنزلَهُ عربيًّا، فبطل أَنْ يكون القُرآن الأَعْجَمِيُّ منزلًا، ويُقال لهم: أخبرونا إِذَا قرأَ القارئ بالفارسيَّة هل تُسمَّى فاتحة الكِتَاب أَوْ تفسيرها؟ فإن قالوا: الثاني. قلنا لهم: قد قال ◙: ((لا صلاةَ إِلاَّ بفاتحة الكِتَاب)) ولم يقل: إِلاَّ بتفسيرها. أَلَا ترى أنَّه لو قرأ تفسيرها بالعربيَّةِ فِي الصَّلاة لَمْ يَجُز؛ فتفسيرها بالفارسيَّة أَوْلى بأن لا يجوز، وقولهم: إنَّ الله حكى قولَ الانبياء الَّذِي بلسانهم، بلسانٍ عربيٍّ فِي القُرآن كقول نوحٍ السَّالف، وأنَّ نوحًا قال هَذَاَ بلسانه فكذلك يجوز أن يحكي القُرآن بلسانهم.
          فالجواب: أنَّا نقول مَا نطقوا إِلاَّ بما حكى الله عنهم كما فِي القُرآن، ولو قلنا مَا ذكروه لَمْ يلزمنا نحن أَنْ نحكي القُرآن بلغةٍ أخرى؛ لأنَّه لا يجوز أَنْ يحكي الله قولهم بلسان العرب ثُمَّ يتعبَّدَنا نحن بتلاوته عَلَى مَا أنزله، فلا يجوز أَنْ نتعدَّاهُ، ويَحتجُّون به أنَّه فِي الصُّحف الأُولى، ومِن قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] فأنذرَ به عَلَى لسان كلِّ أمَّةٍ، فالجواب: أنَّ العرب إِذَا حصل عندها أنَّ ذَلِكَ مُعْجِزٌ وَهُم أهل الفَصَاحة كَاَنَ العجم أتباعًا لهم كما كَاَنَت العامَّة أتباعًا للسَّحَرة فِي زمن موسى، وأتباعًا للأطباء فِي زمن عيسى ◙، فقد تمكَّن العَجَم أن ينقلوه بلسان العرب.
          وأمَّا قولهم: إنَّ الإيمان يصحُّ أَنْ يقال بالفارسيَّةِ. فالجواب: إنَّ الإيمان يقع بالاعتقاد دون اللفظ؛ فلهذا جاز اللفظ بالشهادتين بكلِّ لغةٍ لأنَّ المقصود مِنْهُ يحصل؛ إِذ أصله التصديق بالشريعة، وإذا قُرئ بالفارسيَّة سقط المُعْجِز الَّذِي هُوَ النَّظم والتأليف.
          فإن قيل: إنَّهم يُجيزونه بالفارسيَّةِ إِذَا لَمْ يقْدِر عَلَى العربيَّةِ فينبغي ألَّا يفترق الحُكم، قيل: إِنَّمَا أُجيز للضَّرورة، وليس كلُّ مَا جاز فِي حال الضَّرورة يجوز مَعَ القُدْرة، ولو كَاَنَ كذلك لجاز التيمُّم مَعَ وجود الماء، ولجاز ترك الصَّلاة مَعَ القُدْرة لأنَّه يسقط مَعَ العُذر، مَعَ أنَّا لا نقول بجوازه والحالة هذه.
          فَصْلٌ: قيل: أمَّا مَا فسَّره مِن التَّوراة فكان موافقًا للقرآن صَدَق؛ لتصديق القُرآن إيَّاه، وكذلك هِرَقْلُ فيما يحكيه كَاَنَ ذَلِكَ موجودًا فِي النَّبِيِّ صلعم، وما لَمْ يصدِّقه القُرآن ولم يكذِّبه حُمل عَلَى قول النَّبِيِّ صلعم: ((لا تصدِّقُوهم ولا تكذِّبُوهم، وقولوا: آمنَّا بالله)).
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ فِي الزَّانِيَينِ: (نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا): هُوَ بالخاء المعجمة أي: نُسَوِّدها، وإنَّما أتوا إليه لأنَّهم قالوا: هَذَاَ نبيٌّ أُرسل بالتَّسهيل فامضوا إليه، فإن حكمَ فيها بغير الرَّجْم احتججتم بِذَلِكَ عند الله، وقلتم: هُوَ حُكْم نبيٍّ مِن أنبيائك. فلمَّا أتوا بهما دَعَا بالتَّوراة. ومنه قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ} الآية [المائدة:43] فحكَمَ بما فيها؛ لقوله: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} الآية [المائدة:44].
          فَصْلٌ: وقوله: (فَأَمَرَ بِهِمَا، فَرُجِمَا) فِيْهِ حجَّةٌ عَلَى مالكٍ فِي عَدْم رَجْمِهما، وقال فِي«المدوَّنة»: لَمْ يكن لهم يومئذٍ ذمَّةٌ. وفي غيرها: وأمَّا اليوم فيُردُّون إِلَى أساقفتهم ولا يُرجمان لأنَّ نِكاحهم ليس بإحصانٍ، وخالف الشَّافعِيُّ فقال: نِكاحهم يُحْصِن ويَحِلُّ.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (يَجْنَأ) أي: بالجيم، أي: يُكِبُّ. يُقال: جَنَأ الرَّجُل عَلَى الشيءِ، وَجَانَأَ عليه، وَتَجَانَأَ عليه إِذَا أكبَّ، ورُوي بالمهملة، أي: يُحْنِي عليها ظَهْرَهُ، أي: يعطفه. يُقال: حَنَوتُ العُودَ: عَطَفْتُهُ، وحَنَيْتُ لغةٌ. وَقَد سَلَفَ أوضح من ذَلِكَ بزياداتٍ [خ¦3635].