التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم}

          ░41▒ باب قَوْلِ اللهِ تَعَالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} الآية [فصلت:22]
          7521- ذكر فِيْهِ حَديث أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْد اللهِ ☺ قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ البَيْتِ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ _أَوْ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيَّ_ كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيْلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَونَ أَنَّ اللهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ وقَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرنَا، وَلا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا فَأَنْزَلَ اللهُ ╡: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} الآية [فصلت:22].
          الشَّرْح: أبو مَعْمَرٍ اسمه: عَبْد اللهِ بن سَخْبَرةَ، اتَّفقا عليه، مات فِي ولاية عُبَيدِ اللهِ بن زيادٍ بالكوفة، ولأبيه سَخْبَرةَ الأزْديِّ صحبةٌ وروايةٌ، روى له التِّرْمذِيُّ.
          وغرض البُخَارِيِّ فِي الباب إثباتُ السَّمع لله والعِلْم بثبات الكلام له مِن هَذِه الآَيَة ومِن سائر الآيات فِي الأبواب المتقدِّمة.
          وإذا ثبتَ أنَّه سميعٌ فواجِبٌ كونه سامعًا بسمْعٍ كما أنَّه لَمَّا ثبتَ كونه عالمًا وجبَ كونه عالمًا بعلم خِلافًا لمن أنكر صِفات الله مِن المعتزلة، وقالوا: مَعنى وصفِهِ بأنَّه سامعٌ للمسموعات بمعنى وصفِهِ أنَّه عالمٌ بالمعلومات ولا سمعَ له ولا هُوَ سامعٌ حقيقةً.
          وهذه شَنَاعةٌ وردٌّ لظواهر كِتاب الله تَعَالَى ولسُنن رسوله صلعم، ويوجِبُ كون المخلوق أكملَ أوصافًا مِن الخالق تَعَالَى؛ لأنَّ السامع منَّا يَسمع الشيء ويَعْلَمُهُ حقيقةً وكذلك البصير منَّا يرى الشيء ويَعْلَمُهُ حقيقةً، / فلو كَاَنَ البارئ تَعَالَى سامعًا لِمَا يَسْمَعُهُ ويَعْلَمُهُ بمعنى أنَّه عالِمٌ فقط لكُنَّا أكمل وصفًا مِنْهُ تَعَالَى حَيْثُ أدركنا الشيءَ مِن جهةِ السَّمع والعِلْم وإدراكه مِن جهة العِلْم فقط، وَمَن أدركَ الشيء مِن وجهَين أَوْلى بِصِفةِ الكمال مِن مُدْركهِ مِن وجهٍ واحدٍ، وَهَذَا يُوجِب عليهم أَنْ يكون خالقهم بصِفةِ الأصمِّ الَّذِي يَعْلمُ الشيءَ ولا يَسْمَعُهُ، تَعَالَى عن ذَلِكَ.
          فَصْلٌ: وفي حَديث الباب مِن الفقه: إثباتُ القياس الصَّحيح وإبطال الفاسد، أَلَا ترى أنَّ الَّذِي قَالَ: (يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلاَ يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا)، قد أخطأ فِي قياسه؛ لأنَّه شبَّه الله تَعَالَى بخلقِهِ الَّذِيْنَ يسمعون الجَهْر ولا يسمعون السرَّ، والذي قَالَ: (إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِن أَخْفَيْنَا) أصابَ فِي قياسه حين لَمْ يشبِّه الله تَعَالَى بالمخلوقين ونُزِّه عن مماثلتهم.
          فإن قلت: فإنْ أصاب فِي قياسهِ فكيف جعله الشارع مِن جملة الَّذِيْنَ شهد لهم بقلَّة الفقه؟ قيل له: لَمَّا لَمْ يَعتقد حقيقةَ ما قال وشكَّ فِيْهِ، ولم يَقطع عَلَى سمع الله بقوله: (إن كَاَنَ يَسمعُ) لَمْ يحكم له بالفقه وسوَّى بينهم فِي أنَّه قليلٌ فقهُ قلوبِهم.
          فَصْلٌ: (كَثِيرَةُ شَحْمٍ بُطُونُهُمْ) ضبطناه بضمِّ (كَثِيرَةُ) وتنوين (شَحْمٍ) ورفع (بُطونُهُم)، وكذا (قَلِيْلَةُ فِقْهٍ قُلُوبُهُمْ).
          وقال ابن التِّين: رُوِّيناه: (كَثِيرَةٌ شَحْمُ)، وَهْوَ يجوز عَلَى المعنى أَيْ: كثُرتْ شُحُومُ بُطُونِهِمْ، وأصوب مِن ذَلِكَ أَنْ يرفع (كَثِيرةُ) بأنَّه خبر مبتدأٍ مقدَّمٍ، والمبتدأ (بُطُونُهُم) ويخفض شَحْمًا بالإضافة، و(قَلِيْلَةُ فِقْهٍ قُلُوبُهُمْ) عَلَى هَذَا.
          فَصْلٌ: قوله: (وَلا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا) قال أبُو عُبَيدةَ: هُوَ مِن الأضداد يُقَالُ: خَفى وأَخْفَى إذَا أظهَرَ وإذا أسرَّ، قال تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] أَيْ: أُظهرها، وقيل المعنى: أكادُ أُزِيل عنها خَفَاها، أَيْ: غَطَاها.
          قيل: أَشْكَيْتُهُ أَيْ: أزلتُهُ عمَّا يَشْكو قاله فِي «الصَّحاح».