التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}

          ░46▒ باب قَوْلِ اللهِ ╡: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]
          قَالَ الزُّهْرِيُّ: مِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ، وَعلى رسوله البَلاغُ، وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ. وَقَالَ: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [الجن:28] وَقَالَ: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} [الأعراف:62]. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ حِيْنَ تَخَلَّفَ عَنِ رَسُول اللهِ صلعم: {فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:94]. وَقَالَتْ عَائِشَةُ ♦: إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ فَقُلِ: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ. وَقَالَ مَعْمَرٌ: {ذَلِكَ الكِتَابُ} [البقرة:2] هُوَ هذا القُرآنُ {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] بَيَانٌ وَدِلالَةٌ كَقَولِهِ: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ} [الممتحنة:10] هذا حُكْمُ اللهِ {لَا رَيْبَ} [البقرة:2]: لاَ شَكَّ. {تِلْكَ آيَاتُ} [لقمان:2] يَعْنِي: هذه أَعْلامُ القُرآنِ، وَمِثْلُهُ {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22] يَعْنِي: بِكُمْ. وَقَالَ أَنَسٌ ☺: بَعَثَ النَّبِيَّ صلعم خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِهِ، وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ صلعم؟ فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ.
          7530- حدَّثنا الفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ _هُوَ الرُّخَاميُّ_ حدَّثنا عَبْد الله بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حدَّثنا المُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حدَّثنا سَعِيْدُ بْنُ عُبَيدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ، حدَّثنا بَكْرُ بْنُ عَبْد الله المُزَنِيُّ وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرِ عن جُبيرِ بْنِ حَيَّةَ، قَالَ: قَالَ لي المُغِيْرَةُ: (أَخْبَرَنَا نَبِيُّنُا عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الجَنَّةِ).
          7531- ثَمَّ ساق إِلَى عائِشَة ♦ قالت: (مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا، _وفي لفظٍ: كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الوَحيِ_ فَلا تُصَدِّقُوه، إِنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية [المائدة:67]).
          7532- ثَمَّ ساق حَديث عَمْرو بن شُرَحْبيلَ قَالَ: قَالَ لي عَبْد الله: (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُول اللهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ؟) الحَدِيثُ سلف قريبًا [خ¦6861].
          الشَّرح: فِي آية الترجمةِ قولان:
          أحدهما: ({بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}) ويقوِّيه حَديث عائِشَة ♦ السَّالف وتلاوة الآيَة عَقِبها.
          والثاني: وعليه أكثر أهل اللُّغة أَنَّ المعنى: أظهرَ، أي: بلِّغْه ظاهرًا، وعلى هذا قوله تعالى: ({وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]) أي: مِن أَنْ ينالوك بشرٍّ.
          فَصْلٌ: هذا الباب كالذي قبلَه وَهْوَ فِي معناه، وتبليغ الرسول فعْلٌ مِن أفعاله. وقول الزُّهْرِيِّ: (مِنَ اللهِ الرِّسَالَةُ..) إِلَى آخره. يبيِّن هذا، وأنَّه قول أئمَّة الدِّين.
          وقوله: ({فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:105]) يعني: التِّلاوة وجميع الأعمال.
          وقولها: (إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ) أي: مِن جُملة أعماله تلاوتُه.
          وقولها: (وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ) أي: بعملِهِ فتظنَّ به الخيرَ لكن حَتَّى تراه عاملًا عَلَى مَا شرَعَ الله {وَرَسُولُهُ} عَلَى مَا سنَّ، {وَالْمُؤْمِنُونَ} عَلَى مَا عَمِلوا، قاله ابن بطَّالٍ.
          وقال الدَّاودِيُّ: أي: لا تغترَّ بمدح أحدٍ وحاسِبْ نفسكَ.
          وقول مَعْمَرٍ فِي ({ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:2]:هُوَ القرآن) هُوَ قول عِكْرِمَة وأبي عُبَيدةَ، وفسَّر (ذَلِكَ) بهذا و(ذَلِكَ) ممَّا يُخبر به عن الغائب، و(هَذَاَ) إشارةٌ إِلَى الحاضر والكتاب حاضِرٌ، ومعنى ذَلِكَ أنَّه لَمَّا ابتدأ جبريلُ بتلاوة القرآن لمحمَّدٍ ♂ كَفَت حضرة التِّلاوة عن أَنْ يقول هَذَاَ الذي تَسمع هُوَ {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] فاستغنى أحدُ الضَّميرين عن الآخر.
          وأنكر أبُو العبَّاس مقالة أبي عُبَيدةَ السَّالفة وقال: لأنَّ (ذَلِكَ) لِمَا بَعُدَ، و(ذا) لِمَا قرُب، فإنْ دخلَ واحِدٌ منهما عَلَى الآخر انقلب المعنى، قَالَ: ولكن المعنى: هَذَاَ القرآن ذَلِكَ الكتاب الذي كنتم تَستفتحون به عَلَى الذين كفروا.
          وقال الكِسائيُّ: كأنَّ الرسالة والقول مِن السَّماء والرَّسول فِي الأرض، وقال: ذَلِكَ يَا مُحَمَّدُ. قال ابن كَيْسَانَ: وَهَذَا أحسَنُ.
          قال الفرَّاء: يكون كقولك للرجل وَهْوَ يحدِّثُكَ: وذَلِكَ _والله أعلم_ الحقُّ، فهو فِي اللَّفظ بمنزلة الغائب وليس بغائبٍ، والمعنى عنده ذَلِكَ الذي سمعت به.
          قلت: وممَّا يؤكِّد ذَلِكَ قوله تعالى: ({حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22]) فلمَّا جاز أَنْ يُخبر عنهم بضميرَين مختلفَين ضمير المخاطبة فِي الحَضْرة وضمير الخبر عن الغيبة، فكذلك أخبر بضمير الغائب بقوله: ذَلِكَ وَهْوَ يريد الحاضر، وَهَذَا مذهبٌ مشهورٌ للعرب يُسمِّيه أصحاب المعاني: الالتفات، وَهْوَ انصراف المتكلِّم عن معنًى يكون فِيْهِ إِلَى معنًى آخرَ.
          وقوله: ({كُنْتُمْ}) ثُمَّ قال: ({بِهِم}) يدلُّ أنَّه خاطبَ الكلَّ ثُمَّ أخبر عن الراكبين للفُلْك خاصَّةً؛ إِذ قد يركبُهَا الأقلُّ مِن النَّاس، لكن لجواز أَنْ يَرْكبها كلُّ واحدٍ مِن المخاطبين خاطَبَهم بضمير الكلِّ، ولأنْ لا يَرْكبها إِلاَّ الأقلُّ أخبرَ عن ذَلِكَ الأقلِّ بقوله: {بِهِمْ}.
          فَصْلٌ: (دِلَالَةٌ): بكسر الدال وفتحها ودُلُولة أيضًا، حكاهما الجَوْهَرِيُّ قَالَ: والفتح أعلى.
          ويُقَال: دلالٌ بَيِّن الدِّلالة ودليلٌ بيِّنُ الدَّلالة، قاله أبُو عُمَر الزَّاهد صاحب ثَعْلَب.
          فَصْلٌ: مَا ذكره عن الزُّهْرِيِّ أخرجه عبد الرزَّاق عن مَعْمَرٍ عنه، وما ذكره عن مَعْمَرٍ / ذكره عنه عبد الرزَّاق عنه.
          وما ذكره عن عائِشَة ♦ أسنده ابن المبارك فِي كتاب «البرِّ والصلة» عن سُفْيَانَ، عن مُعَاويةَ بن إسحاقَ، عن عُرْوةَ، عنها.
          وتعليق أنسٍ ☺ أسنده فِي غزوةِ بئر مَعُونةَ [خ¦4091].
          فَصْلٌ: إسناد حَديث المغيرة ☺ فِيْهِ موضعان نبَّه عليهما الجيَّانيُّ:
          أحدهما: كَاَنَ فِي أصل أبي مُحَمَّدٍ الأَصِيليِّ: مَعْمَرُ بن سُلَيمانَ _بفتح العين ثُمَّ أَلحق تاءً بين العين والميم_ فصار مُعْتَمِرًا وَهْوَ المحفوظ.
          ثانيهما: عبيد الله هُوَ الصَّواب ووقع فِي نُسخة أبي الحسن مكبَّرًا، وكذلك كَاَنَ فِي نُسخة أبي مُحَمَّدٍ: عَبْد الله، إِلَّا أنَّه أصلحَهُ بالتصغير فزاد ياءً وكتب فِي الحاشية: هُوَ سعيدُ بن عُبَيدِ الله بن جُبَير بن حيَّة، كذا ذَكَرَه ابن السَّكَن عَلَى الصَّواب.
          قلت: وزِيادُ بن جُبَيرٍ هُوَ ابن حيَّة بن مَسْعُودِ بن مُعَتِّب بن مالكِ بن عَمْرِو بن سعدِ بن عوفِ بن ثَقِيفٍ. اتَّفقا عليه عن ابن عُمَر، وانفرد البُخَارِيُّ بأبيه جُبَير بن حيَّة، ولَّاه زِيَادٌ أَصْبَهان، وتُوفِّي أيَّام عبد الملك بن مَرْوانَ، وقد روى عن عُمَرَ بن الخطَّاب.
          ورأيتُ بخطِّ الدِّمْياطِيِّ قبالة المُعْتَمِر بن سُلَيمانَ قيل: إنَّه وَهَمٌ، والصَّواب: المُعَمَّر بن سُلَيمان الرَّقي؛ لأنَّ عَبْد الله بن جَعْفَرٍ لا يروي عن المُعْتَمِر بن سُلَيمان.
          وَهَذَا عكس مَا أسلفناه عن الجيَّانيِّ.