التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها}

          ░47▒ باب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:93]
          وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (أُعْطِيَ أَهْلُ التَّورَاةِ التَّورَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا) الحَدِيث، وَقَد سَلَفَ مسندًا فِي الصَّلاة [خ¦557]، وأسندَه فِي آخر الباب أيضًا مِن حَديث ابن عُمَر.
          وَقَالَ أبُو رَزِينٍ: {يَتْلُونَهُ} [البقرة:121]: يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ.
          وَهَذَا أسنده ابن المباركِ فِي «رَقَائقهِ» عن سعيدِ بن سُلَيمانَ، عن خَلَف بن خَلِيفة، حدَّثنا حُمَيدٌ الأعرجُ: قَالَ: قال أبُو رَزِينٍ فذكره.
          يقال: {يُتْلَى}: يُقرأ، حُسن التلاوة: حُسن القراءة للقرآن {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}: لا يَجِد طَعْمَه ونَفْعَه إِلاَّ مَن آمنَ بالقرآن ولا يَحْمِلُهُ بحقِّه إِلاَّ الموقِنُ؛ لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} الآية [الجمعة:5]. وَسَمَّى النَّبِيَّ صلعم الإسلاَمَ وَالإِيمَانَ والصَّلاة عَمَلًا. قَالَ أبُو هُرَيْرَةَ ☺: قَالَ النَّبِيَّ صلعم لِبِلالٍ: (أَخْبَرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإسلامِ). قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لم أَتَطَهَّرْ إِلَّا صَلَّيْتُ، وَسُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (إِيمَانٌ باللهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ الجِهَادُ، ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ).
          وسلف هَذَاَ وما قبله مُسندَان، وقِصَّة بِلَالٍ فِي الفضائل سلفت [خ¦1149]. ثَمَّ ساق حَديث ابن عُمَر ☻ الذي ذكره أوَّلًا.
          ومعنى هَذَاَ الباب كالذي قبلَهُ أَنَّ كلَّ مَا يَكْسبُه الإنسان ممَّا يُؤمر به مِن صلاةٍ أَوْ حجٍّ أَوْ جهادٍ وسائر الشَّرائع عمَلٌ يُجازى عَلَى فِعْلهِ ويُعاقب عَلَى تركهِ إن أنفذ اللهُ عليه الوعيد.
          فَصْلٌ: وأمَّا الآيَة التي صدَّر بها البُخَارِيُّ الباب، فقال ابن عبَّاسٍ: كَاَنَ إسرائيل اشتكى عِرْقَ النَّسَا فكان له صِيَاحٌ، فقال: إنْ أبرأني الله مِن ذَلِكَ لا آكل عِرْقًا. وقال مُجَاهِدٌ: الذي حرَّم عَلَى نفسِهِ الأنعام، وقال عَطَاءٌ: لُحُوم الإبل وألبانها.
          قال الضَّحَّاك: قالت اليَهُود لرسول الله صلعم: حُرِّم علينا هَذَاَ فِي التوراة، فأكذبَهم الله وأخبر أنَّ إسرائيل حرَّم عَلَى نفسه مِن قَبْلِ أَنْ تَنزل التوراة، ودعاهم إِلَى إحضارها، فقال: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ} الآية [آل عمران:93].
          فَصْلٌ: وقول أبي رَزِينٍ فِي ({يَتْلُونَهُ}: يتَّبِعُونه)، هُوَ قول عِكْرِمة. قال عِكْرِمة: أَمَا سمعتَ قول الله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس:2] أي: تَبِعها، وقال قَتَادَة: هؤلاء أصحاب نبيِّ الله آمنوا بكتاب الله وصدُّقوا به، وأحلُّوا حلاله وحرُّموا حرامه وعملوا بما فِيْهِ.
          وقال الحسَنُ: يَعملون بمُحْكَمِهِ ويُؤمنون بمتشابههِ ويَكِلُون مَا أشكلَ عليهم إِلَى عالِمِه. واستحسَنَ بعضهم قول أبي رَزِينٍ وقال: هُوَ معروفٌ فِي اللُّغة، واحتجَّ بقوله:
قَدْ جَعَلَتْ دَلْوِيَ تسكني
          وبقول أبي موسى الأَشْعَرِيِّ ☺: مَن يَتَّبِع الرسول يهبط به على رياض الجنَّة.
          7533- فَصْلٌ: وقوله فِي أهل التَّوراة: (فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ ثُمَّ عَجَزُوا) قال الدَّاودِيُّ: هُوَ وَهَمٌ. قَالَ: وكذلك (فَأُعْطُوا قِيرَاطًا) فِي النَّصارى، قَالَ: وفي موضعٍ آخرَ: ((لا حاجة لنا بالأجر))، ولم يَذكر أنَّهم أُعطوا شيئًا إِلَى نِصْف النهار، وفي روايةٍ: ((إِلَى صلاة الظهر ثَمَّ كفروا فَحَبِطت أعمالهم فلم يُعطوا شيئًا)) وكذلك أهل الإنجيل كفروا أيضًا فلم يُعطوا شيئًا وفي روايةٍ: ((إنَّ أهل التوراة أُعطوا قِيْرَاطًا عَلَى أَنْ يَعملوا إِلَى صلاة الظُّهر فعملوا، وأُعطوا قِيْرَاطًا))، ولعلَّ هَذَاَ فيمن ماتَ منهما قبل البِعْثة.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (قَالَ أَهْلُ الكِتَابِ: هَؤُلاَءِ أَقَلُّ مِنَّا عَمَلًا وَأَكْثَرُ أَجْرًا) يريد أهل التوراة كما بيَّنه فِي الحَدِيث السالف؛ لأنَّ النَّصارى ليسوا بأقلَّ عملًا مِن الفضائل عَلَى مثلهِ؛ لأنَّ مِن نِصف النَّهار إِلَى العصر ليس بأقلَّ من حينئذٍ إِلَى الغروب عندنا، وعند الحنفيَّة أنَّ أوَّل الوقت مصيرُ ظلِّ كلِّ شيءٍ مِثْلَيه، وقد سلف كلُّ ذَلِكَ. /