التوضيح لشرح الجامع البخاري

قول الله تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا}

          ░4▒ باب قَوْلِهِ تَعَالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26]
          و{إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34]، و{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11] {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت:47] قَالَ يَحْيَى: الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَالبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.
          7379- ذَكَرَ فِيْهِ حَديث ابن عُمَر ☻: (مفَاتِيْحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ...) الحَدِيْث. وقد سَلَف [خ¦1039]. وذكره هنا بلفظ: (وقال خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حدَّثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، حدَّثنا عَبْدِ اللهِ بْنُ دِيْنَارٍ، عَنِ ابن عُمَرَ ☻ به).
          7380- وَحَدِيْث عَائِشَة ♦ قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلعم رَأَى رَبَّهُ، فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ، وَهْوَ يَقُولُ: لَا يَعْلَمُ الغَيْبَ إلَّا اللهُ.
          غرضه فِي هَذَا الباب إثباتُ عِلم الله تَعَالَى صِفةً لذاته؛ إذ العِلم حقيقةً فِي كون العالِمِ عالمًا؛ إذ مِن المُحَال كون العالِمِ عالمًا ولا عِلْمَ له، وكذلك سائر أوصافه المقتضيةِ للصِّفات التي هي حقيقةٌ فِي ثبات الأوصاف المجرَاةِ عليه تَعَالَى مِن كونه حيًّا قادرًا وما شابه ذَلِكَ خِلافًا لِمَا تقوله القَدَريَّة مِن أنَّه عالمٌ قادرٌ حيٌّ بنفسه لا بقُدرةٍ ولا بِعِلمٍ ولا بحياةٍ، ثُمَّ إذَا ثبت كونه عِلمه قديمًا وجب تعلُّقُه لكلِّ معلومٍ عَلَى حقيقتِهِ.
          وقد نصَّ تَعَالَى عَلَى إثبات عِلْمهِ بقوله تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34]، وبقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وغيرهما مِن الآيات السَّالفة، فمن دفع عِلْم الباري تَعَالَى الَّذِي هُوَ حقيقةٌ فِي كونه عالمًا، وزعَمَ أنَّه عالِمٌ بنفسه لا بعِلمٍ فقد ردَّ نصَّه تَعَالَى عَلَى إثبات العِلم الَّذِي هُوَ حقيقةٌ فِي كونه عالمًا، ولا خِلاف فِي ردِّ نصِّه عَلَى أنَّه ذو عِلْمٍ وبيَّن ردَّ نصِّه عَلَى أنَّه عالِمٌ، فالنافي لعِلمهِ كالنَّافي لكونه عالمًا، وأجمعتِ الأمَّة عَلَى أنَّ مَن نفى كونه عالمًا فهو كافِرٌ، فينبغي أن يكون مَن نفى كونَهُ ذا عِلْمٍ كافرًا، ومَن نفى أحد الأمرين كمن نفى الآخر، والقول فِي العلم بهذا كافٍ مِن القول به فِي جميع صِفاتِهِ.
          وتضمَّن هَذَا الباب الردَّ عَلَى هِشَام بن الحَكَم ومَن قال بقوله مِن أنَّ علمه تَعَالَى محدَثٌ، وأنَّه لا يعلمُ الشيء قبل وجوده، وقد نبَّه الله تَعَالَى عَلَى خِلاف هَذَا بقوله: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية [لقمان:34]، وجميع الآيات الواردة بِذَلِكَ، وأخبر الشارع بمثل ذَلِكَ فِي حَديث ابن عُمَر وعائِشَةَ ♥، فلا يُلتفت إِلَى مَن ردَّ نصوص الكتاب والسُّنَّة.
          فَصْلٌ: وقول عَائِشَة ♦ السَّالف واحتجاجها بالآية سلف جوابه، وقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنَّمَا أنكرت ما قيل عن ابن عبَّاسٍ أنَّه رآه بقلبِهِ، وأمَّا معنى الآَيَة: لا تُحيط به الأبصار، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، فأخبر أنَّهما تَرَاءَيا.
          وَقَوْلُهُ: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} يعنون: محاطًا بنَا، والله تَعَالَى يُرى فِي المعاد، وما ينكر إذَا رُئِيَ فِي المعاد أَنْ يراه مَن شاء الله أَنْ يراه، والنفي لا يكون إلَّا بتوقيفٍ، وأمَّا منعُها _حجَّةً_ خِلاف ما تبيَّن لنا.
          وذُكر عن ابن عبَّاسٍ أنَّه ◙ رأى الله تَعَالَى بعيني بَصَره. خِلاف ما ذكر عنه الدَّاودِيُّ أنَّه رآه بقلبهِ، ولعلَّه سَبْقُ قَلَمٍ، وإنَّما هُوَ بعينه، وَهْوَ الَّذِي أنكرته عَائِشَةُ ♦، وقال أبُو الحسَنِ الأَشْعَرِيُّ: هي فضيلةٌ خُصَّ بها مِن بين سائر الأنبياء، ولا بأس أَنْ تكون الملائكة يَرَونه بأبصار قلوبهم وذلك غير ممتنعٍ.
          واختلف جوابه وجواب غيره مِن مشيخة أهل السُّنَّة: هل رؤيته تَعَالَى فِي القيامة جزاءٌ أم تفضُّلٌ؟ ونفس رُؤيته سبحانه ليستْ لذَّةً لأنَّ ذاتَهُ ليست ذاتًا يُلتذُّ بها وإنَّما يصحَبُ رؤيته اللَّذَّة، وقيل: معنى لا تُدْركه الأبصار: لا تُدْرِكه جسمًا ولا جوهرًا ولا عَرَضًا ولا كشيءٍ مِن المدْركَات، وقيل: لا تُدْرِكه الأبصار، وإنَّما يُدْرِكه المبصِرُون، وقيل: لا تُدْرِكه فِي الدُّنيا.
          فَصْلٌ: قولها: (مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْلَمُ الغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ).
          قَالَ الدَّاوُدِيُّ: ما أظنُّه محفوظًا، وإنَّما المحفوظ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا كتمَ شيئًا ممَّا أُنزِلَ عليه فَقَدْ كَذَبَ، وإنَّما قالت ذَلِكَ لأنَّ الرَّافضة كَانَت تقول: إنه ◙ خصَّ عليًّا بعلمٍ لَمْ يعلمه غيره، وأمَّا عِلم الغيب فما أحدٌ يدَّعي لرسول الله صلعم أنَّه كَاَنَ يعلمُ مِنْهُ إلَّا ما علَّمه الله تَعَالَى.