التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ذكر الله بالأمر وذكر العباد بالدعاء والتضرع

          ░39▒ باب ذِكْرِ اللهِ بالأَمْرِ وَذِكْرِ العِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ وَالرِّسَالَةِ وَالإِبْلاغِ.
          لقوله ╡: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} إِلَى قوله: {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:2]، {غُمَّةً} [يونس:71]: هَمٌّ وَضِيقٌ.
          قَالَ مُجَاهِدٌ: اقْضُوا إِلَيَّ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ، يُقَالُ: افْرُقْ اقْضِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} [التوبة:6] / إِنْسَانٌ يَأْتِيهِ فَيَسْتَمِعُ مَا يَقُولُ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَأْتِيَهُ فَيَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ وَحَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ حَيْثُ جَاءَهُ، {النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2]: القُرْآنُ، {صَوَابًا} [النبأ:38]: حَقًّا فِي الدُّنْيَا وَعَمَلٌ بِهِ.
          الشَّرْح: مَعنى قوله: (بَابُ ذِكْرِ اللهِ بِالأَمْرِ) أَيْ: ذكر الله لعِباده يكون مَعَ أمره لهم بعبادته أَوْ بعذابه إذَا عَصَوه، ويكون مَعَ رحمته وإنْعامه عليهم إذَا أطاعوه أَوْ بعذابهِ إذَا عَصَوه. قال ابن عبَّاسٍ فِي قوله تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]: إذَا ذكر اللهَ العبدُ وهُوَ عَلَى طاعتهِ ذكره برحمته، وإذا ذكره عَلَى معصيتِهِ ذكرَه بلعنتِهِ، وعنه: ليس مِن عبدٍ يَذكر الله إلَّا ذكره، لا يذكره مؤمنٌ إلَّا ذكره برحمتِهِ، ولا كافِرٌ إلَّا ذكَرَهُ بعذابه، قال سعيد بن جُبَيرٍ: اذكروني بالطَّاعة أذكركم بالمغفرة.
          وقوله: (وَذِكْرِ العِبَادِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ) أَيْ: فِي الغُفران والتفضُّل عليهم بالرِّزق والهداية.
          وقوله: (وَالرِّسَالَةِ وَالإِبْلاَغِ) معناه: وذكر الله الأنبياء بالرِّسالة والإبلاغ لِمَا أرسلهم به إِلَى عباده بما يأمرهم به مِن عبادتهِ وينهاهم.
          وقوله: ({وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس:71]) بهذا ذكَرَ الله لرسوله نوحًا ◙ بما بلَّغ مِن أمره وتذكيره قومَه بآيات الله ╡، وكذلك فرضَ عَلَى نبيٍّ بتبليغ كتابِهِ وشريعتِهِ.
          ولذلك ذكر قوله تَعَالَى: ({وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ}) [التوبة:6] الَّذِي أمر بتلاوته عليهم وإنبائهم به.
          وقال مُجَاهِدٌ: ({النَّبَأِ الْعَظِيمِ}: القرآن)، وسُمِّي نبًأ لأنَّه منبَّأٌ به وَهْوَ متلوٌّ لرسول الله صلعم، ولهذا ذكر فِي الباب هَذِه الآَيَة مِن أجل أمر اللهِ مُحَمَّدًا ◙ بإجارة المشرِكِ حتَّى يَسمع الذِّكر.
          وقوله: ({صَوَابًا}: حقًّا)، يريد قوله تَعَالَى: ({لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38]) يريد: وقال: حقًّا فِي الدُّنيا وعَمِل به فذلك الَّذِي يؤذَن له فِي الكلام بين يدي الله بالشَّفاعة لمن أَذِن له.
          وكان يصلُحُ أَنْ يذكر فِي هَذَا الباب قوله ◙ عن ربِّه ╡: ((مَن ذَكَرني فِي نفسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نفسي، ومَن ذَكَرَني فِي ملأٍ ذَكَرْتُهُ فِي ملأٍ خيرٍ منه)) أَيْ: مَن ذكرني فِي نفسه متضرِّعًا داعيًا ذكرتهُ فِي نفسي مجيبًا مُشفقًا، فإن ذكرني فِي ملأٍ مِن النَّاس بالدُّعاء والتضرُّع ذكرتهُ فِي ملأٍ مِن الملائكة الَّذِيْنَ هم أفضلُ مِن ملأ النَّاس _كما وقع فِي كتاب ابن بطَّالٍ عَلَى ما نقله عن الجمهور_ بالمغفرة والرحمة والهداية، يفسُّره قوله ◙ فِي حَديث التنزُّل: ((هل مِن سائلٍ فأعطيهُ؟ هل مِن مستغفرٍ فأغفرَ له؟ هل مِن تائبٍ فأتوب عليه؟))، هَذَا ذِكْرُ الله تَعَالَى العِباد بالنِّعم والإجابة لدُعائهم.
          فَصْلٌ: اختُلِف فِي الأفضل مِن الذِّكْر قيل: بالقلبِ أَوْ باللسان، قاله الدَّاودِيُّ. والصَّواب أنَّ الذِّكْر باللِّسان وقوله: ((لا إله إلَّا الله مُخلصًا مِن قلبهِ)) أعظمُ مِن ذِكْره بقلبه، ووقوفه عند السَّيِّئة فيذكر بلسانه _عندما يهمُّ العبد بالسَّيِّئة_ فيذكرُ مقام ربِّه فيكفُّ.
          فَصْلٌ: وقوله: ({وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} إِلَى قوله: {مِنَ المُسْلِمِينَ}) [يونس:72] مَعنى ({إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي})، أَيْ: كوني فيكم.
          وقوله: ({وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ}) يعني: عظمةَ إيَّاه مِن قوله: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}.
          وقوله: ({فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ}) قال الفرَّاء: وادْعُوا شُركاءكم؛ لأنَّه لا يُقَالُ: أجمعت شُرَكائي، وإنَّما الإجماع للإعداد والعزيمة عَلَى الأمر، قال الشَّاعر:
ورأيتُ بَعْلكِ فِي الوَرغا                     مُتَقلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
          أَيْ: وحاملًا رُمْحًا؛ لأنَّ الرُّمْح لا يُتقلَّد.
          وقال المبرِّد: هُوَ محمولٌ عَلَى المعنى؛ لأنَّ مَعنى الجمع والإجماع واحدٌ، وقال الشيخ أبُو الحسَنِ: المعنى مَعَ شركائكم قَالَ: وقول الفرَّاء لا مَعنى له؛ لأنَّه يذهب إِلَى أنَّ المعنى: وادُعوا شُركاءكم لِيُعِينوكم. فإنَّ معناه مَعنى مَعَ، وإن كَاَنَ يذهب إِلَى الدُّعاء فقط ولا مَعنى له لدُعائهم لغير شيءٍ، وقرأ الجَحْدَرِيُّ بوصل الألف وفتح الميم، وقرأ الحسن: {فأجْمِعُوا}، وَهَذَا يدلُّ أنَّهما لُغتان بمعنى.
          فَصْلٌ: وقوله: ({غُمَّةً} [يونس:71]: هَمٌّ وضيق). قيل المعنى: ليكن أمركم ظاهرًا، يُقَالُ: القوم فِي غمَّةٍ إذَا غُطِّي عليهم أمرُهم والتبسَ، وَمِنْهُ غمَّه الهلال أَيْ: غَشِيه مَا غطَّاه، والغمُّ مِن هَذَا إِنَّمَا هُوَ مَا غَشي القلب مِن الكربِ وَطَبَعه، وأصله مشتقٌّ مِن الغَمَامة.
          وقوله: ({ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ}: ما فِي أنفسكم). أَيْ: افعلوا ما بَدَا لكم، قال الكِسَائيُّ: وتُقرأ أفضوا بقطع الألف.