التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب كلام الرب مع أهل الجنة

          ░38▒ باب كَلامِ الرَّبِّ ╡ مَعَ أَهْلِ الجَنَّةِ.
          7518- ذكر فِيْهِ حَديث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ☺ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْولُ لأهلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْك وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيْتُمْ) الحَدِيْث.
          7519- وَحَدِيْث أَبِي هُرَيْرَة ☺: أنَّه صلعم كَاَنَ يَوْمًا يُحَدِّثُ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ البَادِيَةِ: (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأذَنَ رَبَّهُ فِي الزَّرْعِ فَقَالَ له: أَوَ لَسْتَ فِيْمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى) الحَدِيْث.
          الشَّرْح: قد تقدَّم كلام الربِّ جلَّ جلاله مَعَ الأنبياء والملائكة، وفي هَذَا الحَدِيْث إثبات كلام الله تَعَالَى مَعَ أهل الجنَّة، بقوله: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ..) الحَدِيْث.
          فإن قال قائلٌ: إنَّ فِي هَذَا الحَدِيْث ما يدلُّ عَلَى وَهَنِهِ وسقوطِهِ، وَهْوَ قوله: (أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا)؛ لأنَّ فِيْهِ ما يُوهِمُ أنَّ له أَنْ يَسْخط عَلَى مَن صار فِي الجنَّة.
          وقد نطقَ القرآن بخِلاف ذَلِكَ، قال تَعَالَى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، وقال تَعَالَى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} الآية [الأنعام:82]، وأنَّهم خالدون فِي الجنَّة أبدًا، فكيف يُحِلُّ عليهم رضوانه وقد أوجبه لأهل الجنَّة بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ♥ وَرَضُوْا عَنْهُ} [البينة:8].
          فيُقال له: لمَّا ثبت أنَّ الله تفضَّل للعباد وأخرجهم مِن العدم إِلَى الوجود، وأنعمَ عليهم بخلق الحياة وإدامة الصِّحة والالتذاذ بنعمِهِ وكان له تَعَالَى ألَّا يُخْرِجهم ويُبقيَهم عَلَى العَدَمِ، ثُمَّ لَمَّا خَلَقَهم كَاَنَ له ألَّا يخلقهم أحياءَ ملتذِّين وأن لا يُدِيم لهم الصِّحَّة. فكان تَعَالَى فِي مجازاة المحسنين وإنجاز ما وعدَهم مِن إحسانه متفضِّلًا عليهم، ولم يجب عليه تَعَالَى لأحدٍ شيءٌ يلزمه إِذْ ليس فوقه تَعَالَى مَن شرعَ له شَرْعًا وألزمه حُكمًا، وللمتفضِّل أَنْ يتفضَّل وألَّا يتفضَّل، كما أنَّ له أَنْ يَتعبَّد عباده بلا جزاءٍ ولا شكورٍ تسخيرًا كسائر المخلوقات، وله أَنْ يجازي مدَّةً بمدَّةٍ، ومدَّةُ العمل فِي الدُّنيا متناهيةٌ، فيقطَع ما تفضِّل به مِن المجازاة عَلَى ما تفضَّل به عليهم مِن العمل والمعونة، وعلموا أنَّ آدم ◙ كُلِّفَ فِي الجنَّة باجتناب أكل الشَّجرة فجاز عليه التكليف وجواز المعصية، فزاد الله سرورهم بأنْ آمنَهُم ما كَاَنَ له أَنْ يفعله فيهم، وَرَفَعه عنهم بالرِّضوان عنهم وإسقاط التكليف لهم، وعَصَمَهم مِن جواز المعصية عليهم، فلو عَبَدَ اللهَ العبدُ ألفَ سنةٍ بعد تقدُّمِ أمرهِ إليه فذَلِكَ لمَا وَجَبَ له عليه جزاءٌ عَلَى عِبَادَةٍ، فكيف يجب له ثوابٌ وأقلَّ نِعمةٍ مِن نعمهِ تَستغرق جميعَ أفعالهِ التي يقربُ بها إليه، فحلولُ رضوانه عليهم أَنْعَمُ لنفوسهم مِن كلِّ ما خَوَّلهم فِي جناته تَعَالَى فسقطَ اعتراضهم وصَحَّ مَعنى الحَدِيْث.
          فَصْلٌ: وأدخل حَديث الزَّارع فِي الجنَّة لتكليم الله له، وقوله: (دُونَكَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَإِنَّهُ لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ) فإنْ ظنَّ مَن لَمْ يُنعم النَّظر أنَّ قوله: (لاَ يُشْبِعُكَ شَيْءٌ) معارِضٌ لقوله تَعَالَى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه:118] فليس كما ظَنَّ؛ لأنَّ نفي الشِّبَع لا يوجبُ الجوعَ لأنَّ بينهما واسطة الكفاية والشِّبَع، وأكل أهل الجنَّة لا عن جوعٍ أصلًا لنفي الله الجوعَ عنهم.
          واخْتُلف فِي الشِّبَع فيها؛ والصَّواب أنَّه لا يَشبع لأنَّه لو كَاَنَ فيها لمنعِ طولِ الأكل المستلذِّ منها مدَّة الشِّبَع، وإنَّما أراد بقوله: (لا يُشبعك شيءٌ): ذمَّ ترك القناعة بما كَاَنَ فِيْهِ وطلب الزيادة، أَيْ: لا تُشْبِع عينَكَ ولا نفسَكَ شيءٌ.
          فَصْلٌ: قَالَ الدَّاوُدِيُّ: قوله: (اسْتِحْصَاد الزَّرع) أَيْ: يحصدُ بنفسِهِ.
          وقوله: (وَتَكْوِيرُهُ) يعني: اجتماعه كما تجمع الأَنْدر، وَهَذَا قليلٌ فِي قُدْرة الله تَعَالَى.
          قَالَ: وقوله: (لاَ تَجِدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا) وَهَمٌ؛ لأنَّه لَمْ يكن لأكثرهم زرْعٌ، قلت: وفِيْهِ معه ذِكْر الأنصار _كما سلف_ وَهُم أصحابُ زرْعٍ.