التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قوله: {وكلم الله موسى تكليمًا}

          ░37▒ باب قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]
          7515- ذكر فِيْهِ حَديث أَبِي هُرَيْرَة ☺ أنَّ رَسُوْل اللهِ صلعم قَالَ: (احْتَجَّ آَدَمُ وَمُوسَى..).الحديث.
          وقد سَلَف فِي ذكر الأنبياء فِي باب: وفاة موسى ◙ [خ¦3409].
          7516- ثُمَّ ذكر حَديث أنسٍ ☺ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (يَجْتَمِعُ المُؤمِنُونَ يَوْم القِيَامَةِ فَيَقُولُونَ: لَو اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا..) الحَدِيْث.
          7517- وحديثه أيضًا فِي الإسراء مطوَّلًا، وقد بوَّب البُخَارِيُّ لحديث أنسٍ ☺ فِي كتاب الأنبياء، باب: كَاَنَ النَّبِيُّ صلعم تنامُ عَينُهُ ولا ينامُ قَلْبُهُ [خ¦3570]، وبوَّب له فِي تفسير القرآن، باب: قوله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} الآية [الإسراء:60].
          استدل البُخَارِيُّ عَلَى إثبات كلام الله تَعَالَى وإثباته متكلِّمًا بقوله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] وأجمع أهل السُّنَّة عَلَى أنَّ الله ╡ كلَّم مُوسَى بلا واسطةٍ ولا تَرْجُمانٍ وأفهمهُ معاني كلامه وأسمعَهُ إيَّاها، إِذْ الكلام ممَّا يصحُّ سماعه، فإن قال قائلٌ مِن المعتزلة أَوْ مِن غيرهم: فإِذَا سمع موسى كلام الله بلا واسطةٍ فلا يخلو أَنْ يكون مِن جِنس الكلام المسموعِ المعهودِ فيما بيننا، أَوْ لا يكون مِن جنس الكلام المسموعِ المعهودِ فيما بيننا، فإنْ كَاَنَ مِن جِنسه فقد وجَبَ أَنْ يكون محدَثًا ككلام المحدَثِين، وإن لم يكن مِن جنسهِ، فكيف السبيل إِلَى إسماعه إيَّاه وفَهِم مَعَانيه؟
          فالجواب: أنَّه لو لَزِم مِن حَيْثُ سَمِعَه مِنْهُ تَعَالَى وفَهِم معانيه أَنْ يكون كسائر المحدَثين قياسًا عليه؛ للزم أَنْ يكون تَعَالَى بكونه فاعلًا وقادرًا وعالمًا وحيًّا ومُريدًا، وسائر صِفاته مِن جنسِ جميع الموصوفين بهذه الصِّفات فيما بيننا، فإنْ قالوا: نعم. خرجوا مِن التَّوحيد، وإن أبوا نَقَضُوا دليلهم واعتمادهم عَلَى قياس الغائب عَلَى حُكم الشاهد.
          ثُمَّ يقال لهم: لو وجب أَنْ يكون كلامهُ مِن جِنْس كلام المخلوقين مِن حَيْثُ اشترك كلامه تَعَالَى وكلامهم فِي إدراكهما بالأسماع، لوجب إذَا كَاَنَ الباري تَعَالَى موجودًا وشيئًا أَنْ يكون مِن جنس الموجودات وسائر الأشياء المشاهدة لنا، فإن لَمْ يجب هَذَا لَمْ يجب ما عارضوا به.
          وقد ثبتَ أنَّه تَعَالَى قادرٌ عَلَى أن يُعَلِّمنا اضطرارًا كلَّ شيءٍ يصحُّ أَنْ يُعْلِّمناه استدلالًا ونظرًا، وإذا كَاَنَ ذَلِكَ كذلك فواجبٌ أَنْ يكون تَعَالَى قادرًا عَلَى أَنْ يُعلِّم موسى معاني كلامه _الَّذِي لا يشبهُ كلام المخلوقين، الخارج عن كونه حروفًا متضمِّنةً وأصواتًا مقطَّعَةً اضطرارًا_ أو ينصب له دليلًا إذَا نظر فِيْهِ أدَّاه إِلَى العِلْم بمعاني كلامه، وإذا كَاَنَ قادرًا عَلَى الوجهين جميعًا زالت شُبهة المعتزلة.
          وقال ابن التِّين: اختلف المتكلِّمون فِي سماع كلام الله تَعَالَى، فقال الشيخ أبُو الحسَنِ: كلامُ الله القائم بذاته الَّذِي ليس بحرفٍ ولا صوتٍ يُسمع عند تلاوةِ كلِّ تالٍ وقراءة كلِّ قارئٍ. والقاضي يقول: لا يُسمع وإِنَّمَا تُسمع التِّلاوة دون المتلُوِّ والقراءة دون المقروء.
          ويُحمل قوله تَعَالَى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة:6] عَلَى أنَّه مجازٌ، والمعنى: حتَّى يسمع تلاوة كلام الله وقراءته، والطائفة الأولى تحمِلُ ذَلِكَ عَلَى الحقيقة، ويقولون: الفرْقُ بيننا وبين موسى وبين نبيِّنا ♂ أنَّا نحن نسمعُ كلام الله بواسطة الكلام وذلك سامعُهُ بلا واسطةٍ. والقاضي يقول: مخالفة كلام الله لكلام الخلق أشدُّ مِن اختلاف الأصوات التي نُدركها، فلمَّا لَمْ ندرك ذَلِكَ دلَّ عَلَى بطلان مقالة مَن ادَّعى / أنَّه مسموعٌ، وأنَّ المسموعَ التلاوة والقراءة دون المتلوِّ والمقروءِ.
          فَصْلٌ: قَالَ المهلَّب: فِي إفهام الله تَعَالَى موسى مِن كلامه ما لا عهدَ له بمثلهِ بتنوير قلبه له وشرحِهِ لقبوله، لا يخلو أَنْ يكون ما أفهمَ الله سُليمانَ مِن كلام الطير ومنطقِها هُوَ مثل كلام سُلَيمانَ أو لا يشبه كلامه، فإن كَاَنَ يشبهُ كلام سُلَيمانَ وبني جنسه فلا وجه لاختصاص سُلَيمانَ وداودَ بتعليمه دون بني جنسِهِ، ولا مَعنى لفخره ◙ بالخاصَّة وامتداحه بقوله: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} إِلَى قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل:16] أَنْ يكون منطق الطير الَّذِي فهَّمَهُ سُليمانَ وآله وبني جِنسهِ، فقد أفهمَهُ الله ما لَمْ يفهمه غيره مِن كلام الهُدْهُد، وكلام النَّملة التي تبسَّم صلعم ضاحكًا مِن قولها؛ لفهمِهِ عنها ما لَمْ يَفْهَمه غيره منها.
          فَصْلٌ: وإنَّما ذكر حَديث أَبِي هُرَيْرَة فِي الشَّفاعة مختصرًا لِمَا فِي الحَدِيْث الطويل مِن قول إبراهيمَ: (وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ تَكْلِيمًا)، وكذلك حَديث أنسٍ فِي الإسراء: ((فوجد موسى فِي السَّماء السابعة))، بتفضيل كلامه ╡.
          وَهَذَا يدلُّ عَلَى أنَّ الله تَعَالَى لَمْ يكلِّم مِن الأنبياء إلَّا موسى، بخِلاف ما زَعَم الأشْعَرِيُّون، ذكروا عن ابن عبَّاسٍ ☻ وابن مَسْعُودٍ ☺ أنَّ الله كلَّم مُحَمَّدًا بقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] وأنَّه رأى ربَّه ╡ وأَعْظَمت فِرْيَة مَن افترى فِيْهِ عَلَى الله، وقد أسلفناه مَعَ ردِّه [خ¦3234].
          فَصْلٌ: وأمَّا قول موسى ◙ إِذْ علا جبريلُ بمُحَمَّدٍ صلعم: (يَا ربِّ لَمْ أظنَّ أَنْ ترفعَ عليَّ أحدًا)، فأعلم الله موسى أنَّ الله لَمْ يكلِّم أحدًا مِن البشر فِي الدُّنيا غيره؛ إِذْ بِذَلِكَ استحق أَنْ يُرفعَ إِلَى السَّماء السابعة، وفهِمَ مِن قول الله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف:144] أنَّه أراد البشر كلَّهم ولم يُعلمه، والله تَعَالَى أعلمَ أنَّ الله تَعَالَى فضَّل مُحَمَّدًا عليه بما أعطاه مِن الوسيلة والدَّعوة المقبولة مِنْهُ، شفاعتُهُ لأمَّته مِن شدَّة موقفهم يوم الحشرِ حين أحجَمَ الأنبياء عن الوسيلة إِلَى ربِّهم لشدَّة غضبه تَعَالَى وفضَّله بالإسعاف بالمقام المحمود الَّذِي وعدَه فِي كتابه، فبهذا رفعَ الله مُحَمَّدًا فوق موسى عليهما أفضل الصَّلاة والسَّلام.
          فَصْلٌ: وقوله: (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى) أَيْ: غَلَبه بالحجَّة، قَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنَّمَا حجَّه فِي قوله: (أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ الجَنَّةِ) ليس فِي الذَّنْب، وقال أبُو عبد الملك: ظاهر الحَدِيْث أَنْ لا لومَ فِي المعاصي لأنَّه قد تِيب عليه، فكيف تلومني عَلَى ذَلِكَ وأنت تعلمُ أنَّ مَن تِيب عليه لا يُلام، فلا لومَ عليه، قَالَ: وقوله: (أَخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ الجَنَّةِ) أَيْ: فعلتَ ما أخرجكَ فتناسلوا مِنْهُ بعد خروجك.
          وَقَوْلُ آدم: (أَتَلُومُنِي عَلَى أَمرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ) يريد: قدَّر الله أَنْ أسكُنَ الأرض ويكون منِّي فيها الولد.
          وقيل: إنَّ آدم إِنَّمَا جاوبه عند قوله: (أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنَ الجَنَّةِ)، وَهْوَ مَعنى قوله: (أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَ اللهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ) فاحتجَّ أنَّه خُلِق ليَسْكُن الأرضَ.
          فَصْلٌ: حَدِيْث أنسٍ ☺ سلف الكلام عليه [خ¦3570]، وقول شَرِيكٍ أنَّه قَالَ: (سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلعم مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟) يدلُّ أنَّه ◙ كَاَنَ معه غيره.
          وقوله: (فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى) بين الليلتين سبعٌ أَوْ ثمانٌ أَوْ تسعٌ أَوْ عشْرٌ، أقوالٌ، والصَّلاةُ فُرضت قبل الهِجرة بثلاث سنين أَوْ سنتين أَوْ سنةٍ، أقوالٌ.
          واختُلف فيما أقام بمكَّةَ بعد أَنْ أُوحي إليه، هل هُوَ عشرٌ أَوْ ثلاث عشرة؟ كما سلف، وَهَذَا الحَدِيْث يدلُّ أنَّ شقَّ بطنه قبل أَنْ يُوحى إليه، وتُكُلِّم فِي شَرِيكٍ بسببه، فإنَّه كَاَنَ وَهْوَ غلامٌ أَوْ عندما نُبِّئ وقيل: إنَّه كَاَنَ نُبِّئ، وقد أسلفنا ذَلِكَ مبسوطًا [خ¦3207].
          وقوله: (فَلَمْ يَرَهُمْ) يدلُّ أنَّه أول ما نُبِّئ؛ لأنَّ جبريلَ لَمْ يَنْقَطع عند ذلك كلِّه.
          فَصْلٌ: وقوله: (حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ) وقال الدَّاودِيُّ: إنَّه يريد فِي بعض الأوقات؛ بدليل حَديث الوادي قَالَ: وقيل: إِنَّمَا يُدْرك بقلبهِ وعيناهُ مُغلقتان، فلا يُدْرك الوقت كذلك لأنَّه إِنَّمَا يُدرك بحاسة البصر.
          وقوله: (مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِلَى عَانَتِهِ؛ لأنَّ اللَّبَّة: العَانَة، قال ابن التِّين: وَهْوَ الأشبه. والتَّوْر: إناءٌ يُشرب فِيْهِ، قاله الجَوْهَرِيُّ.
          وقوله: (فَحَشَا صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ) يعني: عُرُوقِ حَلْقهِ، وفي «الصَّحاح»: هي اللَّحَمات التي بين الحَنَكِ وصَفْحَةِ العُنُق، واحدها: لُغْدُودٌ.
          فَصْلٌ: وقوله: (مَرْحَبًا وَأَهْلًا) أَيْ: أتيتَ سعَةً ورأيت أهلًا، فاستأنِسْ ولا تَستوحِشْ.
          وقوله: (بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ) أَيْ: يَجْرِيان فالنِّيل ينزلُ ماؤه إِلَى أرض السُّودان فيجري إِلَى مِصْرَ، فإِذَا الخريف فنزل الغيث زادَ فكانت الزِّيادة التي يريدُ.
          وقوله: (عُنْصرُهُمَا) أَيْ: أصلهما، بضمِّ الصَّاد وفتحها، والزَّبرجد بفتح الجيم: جَوْهَرٌ معروفٌ.
          وقوله: (مِسْكٌ أَذْفَرُ) أَيْ: زكيُّ الرائحةُ، وكذلك إذَا أنتن يُقَالُ: أَذْفَر أيضًا؛ لأنَّ الذَّفَر كلُّ ريحٍ زكيَّةٍ مِن طِيْبٍ أَوْ نَتْنٍ.
          وقوله: (هَذَا الكَوْثَرُ) ويُروى عن ابن عبَّاسٍ ☻ أنَّه قَالَ: الكَوْثَرُ: الخير الكثير الَّذِي أعطاه الله إيَّاه، ورُوي عنه ◙ أنَّه قَالَ: ((دخلتُ الجنَّة فإِذَا أنا بِنَهَرٍ حَافَّتاه خِيَامُ اللُّؤلُؤ فَضَربتُ بيدي فِي مجرى مائِهِ فإِذَا مِسْكٌ أَذْفَرُ، فقال جبريل: هَذَا الكوثرُ الَّذِي أعطاه)). والكوثر فِي اللغة: فَوْعَل مِن الكثرة.
          فَصْلٌ: وقوله: (كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ، فَأَوْعَيْتُ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلاَمِ اللهِ). ذِكْره / فِي الثانية إدريسَ وَهَمٌ إِنَّمَا هُوَ فِي الرابعة، رُوي عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ☺ فِي تفسير قوله تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57] قَالَ: السَّماء الرابعة.
          ورُوي عن هِلَال بن يَسَافٍ قَالَ: كنَّا عند كَعْبِ الأحبار إِذْ أقبل ابن عبَّاسٍ ☻، فقال: هَذَا ابن عمِّ نبيِّكم فوسَّعنا له، فَقَالَ: يَا كعبُ، ما مَعنى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]؟ فقال كعبٌ: كَاَنَ لإدريسَ صَديقٌ مِن الملائكة فأوحى الله إليه: إنِّي أرفع لك كلَّ يومٍ مِثل عمل أهل الأرض، فقال إدريسُ للمَلَك: كلِّم لي مَلَك الموت حتَّى يؤخِّر قَبْض روحي، فحملَهُ الملَك تحت طرفِ جناحهِ فلمَّا بلغ السَّماء الرابعة لَقِي مَلَك الموت فكلَّمه، فَقَالَ: أين هُوَ؟ فَقَالَ: ها هُوَ ذا، فَقَالَ: مِن العَجَب! إنِّي أُمرت أَنْ أقبض روحه فِي السَّماء الرابعة! فَقَبَضها هناك.
          قَالَ الدَّاوُدِيُّ: واتَّفقت الأخبار كلُّها أنَّ إدريس فِي الرَّابعة، وهَارُون فِي الخامسة، واختلفت فِي إبراهيمَ وموسى، فقيل: إبراهيم فِي السَّابعة وموسى فِي السَّادسة. وقيل عكسه وعيسى ويحيى فِي الثانية، ويُوسُف فِي الثَّالثة. وجاء حَديثٌ بِذَلِكَ أخرجه ابن وَهْبٍ عن يَعْقُوبَ بن عبد الرَّحمن الزُّهْرِيِّ، عن أبيه، عن عبد الرَّحمن بن هاشِمِ بن عُتْبَة بن أبي وقَّاصٍ، عن أنسٍ، فذكر حَديث الإسراء: ((فوجَدَ آدمَ فِي السَّماء الدُّنيا وفي الثانية عيسى ويحيى بن زكريَّا _ابني الخالة_ وفي الثالثة يُوسُف، وفي الرابعة إدريسَ، وفي الخامسة هَارُونَ، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيمَ صَلَّى الله عَلَيْهِم وَسَلَّم)).
          فَصْلٌ: وقوله: (فَدَنَا الجَبَّارُ) أَيْ: قرُبت رحمتُهُ وعَطْفُه وفضلُهُ لا دُنوَّ مسافةٍ ونُقلةٍ لاستحالة الحركة والنُّقْلة عَلَى الله تَعَالَى، إِذْ لا يجوز أن تحويه الأمكنة لأنَّه مِن صِفات الحدَث، وليس هَذَا فِي أكثر الروايات.
          فَصْلٌ: وقوله: (حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) وقالت عَائِشَة ♦: إِنَّمَا كَاَنَ قابَ قَوْسَين مِن جبريل ◙.
          وبه جزم ابن بطَّالٍ فَقَالَ: هُوَ جِبْريلُ الَّذِي تدلَّى فكان مِن الله أَوْ مِن مِقْدَاره عَلَى مقدار ذَلِكَ، عن الحَسَن: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10] إِلَى جبريلَ وكتبَ القلم حتَّى سَمِع مُحَمَّدٌ صلعم صَرِيفه فِي كتابه، وبلَّغ جِبريلُ مُحَمَّدًا صلعم وَهْوَ عند سِدْرَة المُنْتَهى، قيل: إليها تنتهي أرواح الشُّهداء.
          ({مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]) قال ابن عبَّاسٍ: رأى محمَّدٌ ربَّه بقلبه. وعن ابن مَسْعُودٍ: رأى جبريل. وَهْوَ قول عَائِشَة ♦ _كما سلف_ وقَتَادَة. وقال الحَسَنُ: ما رأى مِن مقدور الله ومَلَكُوته.
          {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} هُوَ مُحَمَّدٌ رأى جبريل فِي صُورته التي خَلَقه الله عليها، له ستُّمائة جناحٍ رفرفًا أخضَرَ سدَّ ما بين الخافقَين ولم يره قطُّ فِي صُورته التي هُوَ عليها إلَّا مرَّتين، وإنَّما يراه فِي صورةٍ كَاَنَ يتشكَّل عليها مِن صورة الآدميِّين، وأكثرها صُورة دِحْيةَ الكَلْبِيِّ، وفي قوله: أَفَتُمَارُونَهُ} دليلٌ عَلَى أَنْ العَيَان أكبر أسباب العِلْم ولا يتمارى فِيْهِ، ولذلك قال ◙: ((ليس الخبرُ كالمُعَاينة)).
          فَصْلٌ: إن قلت: ما وجهُ الحكمة فِي لقاء الشارع الأنبياء فِي السَّموات دون عِلِّيِّين، والأنبياء مقرُّهم في ساحة الجنَّة ورياضها تحت العرش، ومَن دونهم مِن العرش هناك، فما وجه لقائهم فِي سماءٍ سماءٍ؟ قلت: وجهه أنَّهم تلقَّوه كما يُتلقَّى القادم يَتَسابق النَّاس إليه عَلَى قَدْر سُرورهم بلقائِهِ.
          فَصْلٌ: قوله: (فَرَفَعَهُ _يعني: جبريل_ عِنْدَ الخَامِسَةِ) قال: الدَّاودِيُّ: رَفْعه بعد الخامسة ليس بثابتٍ، والذي فِي الروايات: ((أستحيي مِن ربِّي فَنُوديَ: أمضيتُ فريضتي وخفَّفتُ عن عِبَادي وجعلتُ الخمسة بعشْرِ أمثالها)).
          وقوله: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا) كذا وقَعَ هنا بعد أَنْ قَالَ: (لاَ يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ) قَالَ الدَّاوُدِيُّ: هي لا تثبُتُ؛ لأنَّ الروايات تواطَأَت عَلَى خِلافه، وما كَاَنَ موسى ليأمره بالرجوع بعد أَنْ قال الله لِنَبِيِّهِ: (لاَ يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ) ولم يرجع بعد الخَمْس.
          فَصْلٌ: وقوله: (قَالَ: فَاهْبِطْ بِاسْمِ اللهِ) قَالَ: واستيقَظَ وَهْوَ فِي المسجد الحَرَام.
          ادَّعى الدَّاودِيُّ أنَّ الَّذِي قال له: (اهْبِطْ بِاسْمِ اللهِ) جبريل، وظاهِرُ ما فِي الكتاب خِلافه، قَالَ: وقوله: (فَاسْتَيْقَظَ) أَيْ: فارقَهُ الوحي وما كَاَنَ يأخذه عند الوحي؛ لاشتغاله بالوحيِ وعَظَمَتهِ فِي نفسه وثِقَلِه عليه.
          فَصْلٌ: وقوله: (وَهُوَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ) قد أسلفنا اختلاف النَّاس فِي مَسَراه، هل كَاَنَ بجسدهِ ونفسهِ أَوْ بروحهِ دونَ جسمهِ؟ ورُوي الأوَّل عن ابن عبَّاسٍ ☻ والضَّحَّاك وسَعِيد بن جُبَيرٍ وقَتَادَة وإبراهيمَ ومَسْرُوقٍ ومُجَاهِدٍ وعِكْرِمَةَ.
          ثُمَّ قالت طائفةٌ منهم: إنَّه صلَّى بالأنبياء ببيت المقدِسِ ثُمَّ عُرِج به إِلَى السماء، فأوحى الله تَعَالَى إليه وفرضَ عليه الصَّلاة، ثُمَّ رجع إِلَى المسجد الحرام مِن ليلته فصلَّى به صلاة الصُّبح. روى ذَلِكَ الطَّبرِيُّ فِي حَديث الإسراء عن أنسٍ ☺. ذكر مِن حَديث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ☺ أنَّه صلَّى ◙ ببيت المقدِسِ ولم يذكر أنَّه صلَّى خلفَهُ أحدٌ.
          وقالت أخرى منهم: إنَّه لم يَدْخله ولم يُصَلِّ فِيْهِ، ولم ينزل عن البُرَاق حتَّى رجعَ إِلَى مكَّة، رُوي ذَلِكَ عن حُذَيفةَ، قال فِي قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} الآية [الإسراء:1]. قَالَ: لَمْ يُصلِّ فِيْهِ، ولو صلَّى فيه لكُتبت عليكم الصَّلاة كما كُتبت الصلاة عليكم عند الكعبة.
          ورُوي القول الثاني _أعني أنَّ الإسراءَ كَاَنَ بروحِهِ دون جَسده_ عن عَائِشَة / ومُعَاويةَ بن أبي سُفْيَان ♥، وذكر ابن فُورَك عن الحسَنِ قَالَ: عُرِج بروح رَسُوْل اللهِ صلعم وجسدُهُ فِي الأرض، وَهْوَ اختيار ابن إسحاقَ.
          حُجَّة الأوَّلين ما رُوي عن ابن عبَّاسٍ ☻ فِي قوله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء:60]. قَالَ: هي رُؤيا عينٍ أُريها رَسُوْل اللهِ ليلة أُسريَ به إِلَى بيت المقدس وليست رُؤيا مَنَامٍ. رواه ابن عُيَينة، عن عَمْرٍو، عن عِكْرِمةَ، عنه قالوا: ولو أُسري بروحه فقط وكان الإسراء منامًا لَمَا أنكرت ذَلِكَ قُرَيشٌ مِن قوله لأنَّهم لا يُنْكِرون الرُّؤيا، ولا يُنكِرُون أنَّ أحدًا يرى في المنام ما هُوَ عَلَى مسيرة سنةٍ، فكيف ما هُوَ عَلَى مسيرة شهْرٍ أَوْ أقلَّ؟!.
          ومِن حُجَّة الَّذِيْنَ قالوا إنَّه بالرُّوح فقط: قول أنسٍ ☺ فِي حَديث الإسراء، قَالَ: ((حين أُسري به جاءه ثلاثة نَفَرٍ وَهْوَ نائِمٌ فِي المسجد الحرام)). وذكر الحَدِيْث إِلَى قوله: ((ثُمَّ أتوه فِي ليلةٍ أخرى فيما يرى قلبهُ وتنام عينه)). الحَدِيْث، فذكر النوم فِي أوَّل الحَدِيْث، وقال فِي آخره: ((فاستيقظَ وَهْوَ فِي المسجد الحرام)).
          وَهَذَا بيِّنٌ لا إشكال فِيْهِ، وإلى هَذَا ذهب البُخَارِيُّ، وكذلك ترجم له فِي كتاب الأنبياء وتفسير القرآن ما ذكرته فِي صدر هَذَا الباب، قال ابن إسحاق: وأخبرني بعض آل أبي بكِرٍ الصِّدِّيق أنَّ عَائِشَة ♦ كانت تقول: ما فُقِد جسدُ رَسُوْل اللهِ صلعم ولكن أُسريَ بروحه.
          قال ابن إسحاقَ: وحدَّثني يَعْقُوبُ بن عُيَينة بن المغيرةِ أنَّ مُعَاويةَ بن أبي سُفْيَانَ إذَا سُئل عن مَسْرى رَسُوْل اللهِ صلعم قَالَ: كَانَت رُؤيا مِن الله صادقةً. قال ابن إسحاق: فلم يُنكَر ذَلِكَ مِن قولهما لقول الحسَنِ البَصْرِيِّ: إنَّ هَذِه الآَيَة نزلت فِي ذَلِكَ يعني: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا}؛ ولقوله ╡ عن إبراهيمَ إِذْ قال لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102]، ثُمَّ مضى عَلَى ذَلِكَ، فعرف أنَّ الوحي مِن الله يأتي الأنبياء أيقاظًا ومنامًا، قال ابن إسحاق: وكان ◙ يقول: ((تنامُ عيني وقلبي يقظان)). فالله أعلمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فقد جاءه وعاينَ فِيْهِ ما عاينَ مِن أمر الله عَلَى أَيِّ حالته كَاَنَ نائمًا أَوْ يقظان، كلُّ ذَلِكَ حقٌّ وصدْقٌ، وذكر ابن فُورَك فِي «مشكل القرآن»، قَالَ: كَاَنَ ◙ ليلة الإسراء فِي بيت أمِّ هانئٍ بنتِ أبي طالبٍ، فالله أعلم.
          واحتجَّ أهل هَذِه المقالة، فقالوا: ما اعتلَّ به مَن قَالَ: إنَّ الإسراء لو كَاَنَ فِي المنام لَمَا أنكرتَهُ قُرَيشٌ لأنَّهم كانوا لا يُنكرون الرُّؤيا؛ فلا حجَّة فِيْهِ؛ لأنَّ قريشًا كَانَت تُكذِّب العَيَان وتَرُدُّ شهادةَ الله الَّذِي هُوَ أكبر شهادةً عليهم بِذَلِكَ، إِذْ قال عنهم حين انشقَّ القمر: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2].
          فأخبرَ عنهم أنَّهم يكذِّبون ما يَرَون عَيَانًا، ولذلك قال لهم: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ} الآية [الحجر:14]، وقال عنهم أنَّهم قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} إِلَى: {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} ثُمَّ قال بعد ما تمنَّوه: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا} [الإسراء:90-93]، وقال: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} إِلَى قوله: {لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109]: فأخبر تَعَالَى أنَّه يكيد عقولهم وأبصارهم حتَّى يُنكروا العَيَان القاطِع للارتياب، ومثلُهُ قوله تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ} الآية [الأنعام:111].
          وإنَّما كَاَنَ إنكار قُرَيشٍ لقوله: (أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ) حِرْصًا منهم عَلَى التَّشنيع عليه وإثارة اسم الكَذَب عليه عند العامَّةِ المسهولة بمثل هَذَا التشنيع؛ فلم يسألوه فِي اليقظة كَاَنَ ذَلِكَ الإسراء أَوْ منامًا؟ وأقبلوا عَلَى التَّقريع عليه وتعظيم قوله، وَهَذَا غير معدومٍ مِن تشنيعهم، ألَا ترى تكذيبهم مثل وقعة بدْرٍ لرؤيا عَاتكَةَ بنت عبد المطَّلِب عمَّة رَسُوْل اللهِ صلعم، إِذْ قالت: رأيتُ كأنَّ صخرةً انْحَدَرت مِن أبي قُبَيسٍ فانْفَلَقَت، فما تركتْ دارًا بمكَّةَ إلَّا دَخَلت منها فِلْقةٌ، فلمَّا رأوا قُبح تأويلها عليهم قالوا: يَا بني عبد المطَّلِب، ما أهلُ بيتٍ فِي العرب أكذبَ منكم، أمَّا كَفَاكم أَنْ تدَّعوا النُّبوَّة فِي رجالكم حتَّى جعلتم مِنكم نبيَّةً، فشنَّعوا رُؤياها، وأخبروا عنها بالنَّفي طمعًا فِي إثارة العامَّة عليهم، فكذلك كَاَنَ قولهم فِي الإسراء.
          فَصْلٌ: قال الخطَّابيُّ: ليس فِي هَذَا الكتاب حَديثٌ أشنع ظاهرًا مِن هَذَا الحَدِيْث، قَالَ: ولذلك سَرَدْتُهُ كاملًا فِي كتابي ليعتبِرَ الناظر أوَّلَه بآخرِه فلا يُشكل عليه _بإذن الله_ معناه وذلك أنَّه ذكر فِي أوَّل الحَدِيْث: (جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ). وقال فِي آخره: (فَاسْتَيْقَظَ) ورؤيا الرُّؤيا أمثلةٌ تُضرب لتتأوَّل عَلَى الوجه الَّذِي يجب أَنْ يُصرف إليه مَعنى التعبير فِي مثلِهِ، وبعضها كالمشاهدة والعَيَان.
          ثُمَّ القِصَّة بطولها إِنَّمَا هي حكايةٌ يحكيها أنسٌ مِن تلقاء نفسهِ لَمْ يعزُها إِلَى رَسُوْل اللهِ صلعم ولا رواها عنه ولا أضافها إِلَى قولهِ، فحاصلُ الأمر فِي الذِّكر وإطلاق اللًّفظ عَلَى الوجه الَّذِي قد تضمَّنَهُ الخبر أنَّه رُوي إمَّا مِن أنسٍ وإمَّا مِن رواية شَرِيكِ بن عَبْد اللهِ بن أبي نَمِرٍ، فإنَّهُ كثيرُ التفرُّد بمناكير الألفاظ فِي مثل هَذِه الأحاديث إذَا رواها مِن حَيْثُ لا يتابعُهُ عليها سائر الرُّواة، وأيُّهما صحَّ القول عنه وأُضيف إليه فقد خالفَهُ فِيْهِ عامَّةُ السَّلف المتقدِّمين وأهل التفسير منهم ومِن المتأخِّرين. والذي قيل فِي الآَيَة ثلاثة أقوالٍ: /
          أحدها: أنَّ الَّذِي دَنَا جبريلُ مِن مُحَمَّدٍ. أَيْ: تقرَّب، وَهْوَ عَلَى التقديم والتَّأخير، أَيْ: تدلَّى فَدَنى، وذلك أنَّ التدلِّي سببٌ للدُّنوِّ. وقيل: تدلَّى له جبريلُ بعد الانتصابِ والارتفاع كما رآه رَسُوْل اللهِ صلعم مُتدلِّيًّا كما رآه، وكان ذَلِكَ مِن آياتِ قُدرة الله حين أقدرَهُ عَلَى أن يتدلَّى فِي الهواء مِن غير اعتمادٍ عَلَى شيءٍ ولا يُمسك بشيءٍ.
          وقيل: دنا جبريل وتدلَّى مُحَمَّدٌ ساجدًا لربِّه شكرًا عَلَى ما أناله مِن كرامتِهِ، ولم يثبُت فِيْهِ شيءٌ ممَّا رُوي عن السَّلف أنَّ التدلِّي مُضَافٌ إِلَى الله تَعَالَى عن صِفات المخلوقين.
          قَالَ: ورُوي هَذَا الحَدِيْث عن أنسٍ مِن طريق شَرِيك بن عَبْد اللهِ، فلم يذكر هَذِه الألفاظ الشنيعة فإنَّ ذَلِكَ ممَّا يُقوِّي الظنَّ أنَّها صادرةٌ مِن قِبَل شَرِيكٍ.
          قَالَ: وفي هَذَا الحَدِيْث لفظةٌ أُخرى تفرَّد بها شَرِيكٌ أيضًا لا يذكرُها غيره، وهي قوله: (وَهُوَ مَكَانَهُ). والمكان لا يُضاف إِلَى الله إِنَّمَا هُوَ مكانُ الشيء فِي مُقامه الأوَّل الَّذِي يُقيم فِيْهِ.