التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم

          ░57▒ باب قِرَاءَةِ الفَاجِرِ وَالمُنَافِقِ، وَأصوَاتُهُمْ وَتَلاوَتُهُمْ لا تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ.
          7560- ذكر فِيْهِ حَديث هَمَّامٍ، حدَّثنا قَتَادَةُ، حدَّثنا أَنَسٌ، عَنْ أبِي مُوسَى ☻، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرآن كَالأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبُ..).
          7561- وَحَدِيث عائِشَة ♦: سَأَلَ النَّاسُ رَسُول اللهِ صلعم عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ: (إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيءٍ) فَقَالُوا: يَا رَسُولِ اللهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيءٍ يَكُونُ حَقًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: (تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيْهِا أَكْثَرَ مِنْ مَائَةِ كَذْبَةٍ).
          7562- وَحَدِيث أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ☺: عن رَسُولِ اللهِ صلعم: (يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ المَشْرِقِ يَقْرَءُونَ القُرآن لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيْهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ).
          قِيْلَ: مَا سِيمَاهُمْ؟. قَالَ: (سِيْمَاهُمُ التَّحْلِيقُ). أَوْ قَالَ: (التَّسْبِيْدُ).
          الشَّرح: معنى هَذَاَ الباب: أنَّ قراءةَ الفاجر والمنافق لا ترتفِعُ إِلَى الله تعالى، ولا تزكُو عنده وإنَّما يزكُو عنده تعالى ويَرْتفع إليه مِن الأعمال مَا أُريد به وجهه، وكان عن نيَّةٍ وقُربةٍ إليه ╡، أَلَا ترى أنَّه شبَّه الفاجر الَّذِي يقرأ القُرآن بالرَّيحانة ريحُها طيِّبٌ وطعمُها مرٌّ حين لَمْ ينتفع ببركة القُرآن ولم يَفُز بحلاوة أجرهِ، فلم يجاوز الطِّيب حُلُوقَهم موضع الصَّوت ولا بلغ إِلَى قلوبهم ذَلِكَ الطِّيب؛ لأنَّ طعْمَ قلوبهم مرٌّ، وَهْوَ النِّفاق المستتر فيها كما استترَ طَعْم الرَّيحانة فِي عُودها مَعَ ظهور رائحتها، وهؤلاء هم الَّذِين يَمْرُقُونَ مِن الدِّين كما يَمْرُقُ السَّهم مِن الرَّميَّة.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (المُؤْمِنُ كَالأُتْرُجَّةِ) كذا فِي الأُصُول.
          ولأبي الحسَنِ: <كَالأُتْرنْجَةِ> _بالنُّون_ والصَّواب الأوَّلُ؛ فإنَّ النُّون والهمزة لا يجتمعان والمعروف الأُتْرُجُّ، و حكى أبُو زيدٍ: تُرُنْجَةٌ وتُرُنْجٌ.
          فَصْلٌ: وأمَّا قَوْلُهُ: (ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيْهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ) فهذا الحَدِيث أخرجَهم مِن الإسلام، وَهْوَ بخلاف الحَدِيث الَّذِي فِيْهِ: ((يُتمَارى فِي فُوقهِ)). التَّماري: أبقاهم فِي الإسلام، وَهَذَا أخرجهم مِنْهُ؛ لأنَّ السَّهم لا يعودُ إِلَى فُوقهِ أبدًا فيمكن أَنْ يكون هَذَاَ الحَدِيث فِي قومٍ قد عَرَفهم رَسُول اللهِ صلعم بالوحي أنَّهم يمرقُون قبل التَّوبة، وقد خرجوا ببِدْعتهم وسُوء تأويلهم إِلَى الكُفر، أَلَا ترى أنَّه ◙ وَسَمَهم بسِيما خصَّهم بها مِن غيرهم، وَهْوَ (التَّسبيدُ) أَوْ (التَّحليقُ) كما وَسَمهم بالرَّجل الأسود الَّذِي إحدى يديه مثل ثَدْي المرأة، وهم الَّذِين قَتَلَ / عليٌّ ☺ بالنَّهروان حين قالوا: إنَّك ربنُّا، فاغتاظَ عليهم وأمر بحرقهم فزادهم الشَّيطان فتنةً فقالوا: الآن أيقنا أنَّك ربَّنا؛ إِذْ لا يعذِّب بالنَّار إِلَّا الله تعالى، فثبتَ بِذَلِكَ كُفرهم.
          وقد قال بعض العلماء: إنَّ مَن وسمَهُ الشارع بتحليقٍ أَوْ غيره أنَّه لا يُستتاب إِذَا وُجدت فِيْهِ السِّيما، ألَّا ترى أنَّ عليًّا ☺ لَمْ يُنْقَل عنه أنَّه استتاب أحدًا منهم، وقد روى عليٌّ ☺ عن رَسُول اللهِ صلعم أنَّه قَالَ: ((أينما لَقِيتُموهم فاقتلوهم فإنَّ قتلَهُم أجْرٌ لمن قتلهم)). وقال: ((لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتْلَ عادٍ))، قلنا: قد مضى ابن عبَّاسٍ إليهم ووعظَهم وذكَّرهم، فرجَعَ منهم أربعة آلافٍ وأصرَّ ثمانية آلافٍ، ولم يبلغنا أنَّه ◙ لَمْ يقبل توبةَ مَن تاب، نعم روى أبُو الشيخ مِن حَديث ابن عُمَر ☻ مرفوعًا: ((المكذِّبون بالقَدَر يُقتَلُوا ولا يُستتابوا))، وقد كفَّروا عليًّا، وقد قيل: أَساءَ سمعًا فساء إجابةً، والمحرَّقون قومٌ آخرون. كما سلف فِي كتاب المرتدِّين [خ¦6922].
          فَصْلٌ: وأمَّا دخول حَديث الكُهَّان فإنَّما ذكره فِي هَذَاَ الباب؛ لقوله ◙ فيهم: (لَيْسُوا بِشَيْءٍ)، وإن كَاَنَ فِي كلامهم كلمةٌ مِن الحقِّ فإنَّهم يُفسدون تلك الكلمة مِن الصِّدق بمائة كِذبةٍ أَوْ أكثر، فلم ينتفعوا بتلك الكلمة مِن الصِّدق؛ لِغَلَبة الكَذِب عليهم كما لَمْ يَنتفع المنافق بقراءته لفِسَاد عَقْد قلبِهِ.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ) أي: يصبُّها فِي الأُذُن بصوتٍ شبيهٍ بِقَرْقَرةِ الدَّجاجة، قال الأصمعيُّ: قَرْقَرَ البعير قَرقَرةً إِذَا صَوَّت ورَجَّع، وقد رُوي بالزاي بدل الدَّال، وكِلَاهما صوابٌ، ويدلُّ عَلَى صِحَّة الثانية رواية مَن روى ((كما تقرُّ القارورة))؛ لأنَّ القَرْقَرة قد تكون فِي الزُّجاجة عند وَضْع الأشياء فيها كما تَقَرْقرُ الدَّجاجة أيضًا، وكما تكون القَرَاقر أيضًا.
          وسلف فِي باب بدْءِ الخَلْق ((فيقرُّها فِي أُذُن وليِّه كما تقرُّ القارورة)) [خ¦3288]، والمعنى فِيْهِ: أنَّ الشياطين تَقُرُّ الكلمة فِي أُذُن الكاهِن كما يقرُّ الشيء فِي القارورة وَهَذَا عَلَى الاتِّساع كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33]؛ لأنَّ القارورة لا تقرُّ وإنَّما يُقَرُّ فيها، كما لا يكون المكرُ لليل والنَّهار وإنَّما يكون فيهما، قال صاحب «الأفعال»: يُقال: قَرَرْتُ الماء فِي السِّقاء صَبَبْتُهُ فيه وأَقْرَرْتهُ، وقَرَرْتُ الخبرَ فِي أُذُنه أَقُرُّه قَرًّا: أَوْدَعْتُهُ فيها، وعن أبي زيْدٍ: أقِرُّه بكسر القاف، وقال الأَصْمعيُّ: يُقَالُ: قرَّ ذَلِكَ فِي أُذُنه يُقَرْقِر إِذَا صارَ فِي أُذُنه، فالمعنى: أنَّه يقرُّ الكلمةَ فِي أُذُن الكاهِن مِن غير صوتٍ، وفي حَديث القرقرة أيضًا أنَّه يضعُها بصوتٍ.
          فدلَّ اختلاف لفظ الحديثَين أنَّه مرَّةً يَضَعُها فِي أذن الكاهن بصوتٍ، ومرَّةً بغير صوتٍ.
          فَصْلٌ: وَقَوْلُهُ: (سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ أَوْ التَّسْبِيدُ) شكَّ المحدِّثُ فِي أيِّ اللفظين قال ◙، ومعناه مُتَقاربٌ. قال صاحب «العين»: سبَّد رأسه: استأصلَ شَعَره، و(التَّسْبِيدُ): أن يَنْبُتَ الشَّعر بعد أيَّامٍ. وعند الهَرَويِّ: هُوَ الحَلْق، ويُقال: هُوَ تركُ الدُّهن وغَسْل اليد، والتَّسميد بالميم مثله.