التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث: خلق الله آدم وطوله ستون ذراعًا

          ثمَّ ذكر البخاريُّ في الباب عشرة أحاديث: أحدها:
          3326- حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: (خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ المَلاَئِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ).
          الشَّرح: هذا الحديث أخرجه في الاستئذان أيضًا [خ¦6227]، وقدْ أسْلفنا صفة الذِّراع في صفة الجنَّة [خ¦3246]، وقال ابن التِّين: قيل: المراد بذراعنا لأنَّ ذراع كلِّ أحدٍ مثلُ رُبعه، ولو كانت بذراعه لكانت يده قصيرةً في جنب طول جسده كالإصبع والظُّفر، وقيل: هي ستُّون بذراعه، وقيل: إنَّهُ كان يُقارب أعلاه السَّماء، وإنَّ الملائكة كانت تتأذَّى بنفسه فخفضه الله إلى ستِّين ذراعًا.
          وظاهر الحديث خلافُه، فإنَّهُ خُلق وطوله ستُّون ذراعًا، نعم روى ابن جَرير مِن حديث جَريرٍ خَتَنِ عطاءٍ، عن عطاء بن أبي رَباحٍ قال: لمَّا أهبطَ اللهُ آدمَ مِنَ الجَنَّة كان رِجلاه في الأرض ورأسُه في السَّماء، يسمع كلام أهل السَّماء ودعاءهم ويأنس إليهم، فهابته الملائكة حتَّى شكتْ إلى الله ذلك في دعائها فخفضه الله إلى الأرض.
          وقاله قَتادة وأبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ، وأبو يحيى القتَّات عن مجاهدٍ عن ابن عبَّاسٍ، وأخرجه ابن أبي شَيبة في كتاب «العرش» مِنْ حديث طَلْحة بن عمرٍو الحَضْرَميِّ عن ابن عبَّاسٍ.
          وقال الثَّوريُّ: خلق الله آدم في أوَّل نشأته على صورته الَّتي كان عليها في الأرض، وتوفِّي عنها وهي ستُّون ذراعًا، ولم ينتقل أطوارًا كذرِّيَّته، وكانت صورتُه في الجَنَّة هي صورته في الأرض لم تتغيَّر.
          وقال القُرْطُبيُّ: إنَّ الله يعيد أهل الجَنَّة إلى خلقة أصلهم الَّذي هو آدم، وعلى صفته وطوله الَّذي خلقه الله عليه في الجَنَّة، وكان طوله فيها ستِّين ذراعًا في الارتفاع مِنْ ذراع نفسه، قال: ويحتمل أن يكون هذا الذِّراع مقدَّرًا بأذرعتنا المتعارَفة عندنا، وقال ابن فُورَكَ قبلهما: صورة آدم كهذه الصُّورة أيضًا، لأنَّ مَنْ زعم أنَّهَا كانت على هيئةٍ أخرى كما في بعض الرِّوايات مِنْ ذكر طوله، وذلك ممَّا لا يُوثق به إذ ليس في ذلك خبرٌ صحيحٌ، وإنَّمَا المعوَّل في مثله على كعبٍ أو وهبٍ مِنْ حديث التَّوراة، ولا يُعتدُّ بشيءٍ مِنْ ذلك، ولم يثبُت مِنْ جهةٍ أُخرى أنَّهُ كان على خلاف هذه الخِلقة.
          فصلٌ: قوله: (اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ) هو أوَّل مشروعيَّة السَّلام، وهو دالٌّ على تأكُّده، وإفشاؤه سببٌ للمحبَّة الدِّينيَّة ودخول الجَنَّة العليَّة، وقد قيل بوجوبه فيما حكاه القُرْطُبيُّ، ويُؤخذ منه أنَّ الوارد على جُلوسٍ يُسلِّم عليهم، والأفضل تعريفُه، فإن نَكَّرهُ جاز، وفيه الزِّيادة في الرَّدِّ على الابتداء، وأنَّهُ لا يُشترط في الرَّدِّ الإتيان بالواو وقد سلف [خ¦3217]، وسيأتي له زيادةٌ في الاستئذان [خ¦6227].
          فصلٌ: قوله (فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ) يريد كما يزيد شيئًا فشيئًا، ولا يتبيَّن ذلك فيما بين السَّاعتين ولا اليومين المتواليين، فإذا كثُرت الأيَّام تبيَّن ما زاد.