التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: الأرواح جنود مجندة

          ░2▒ بَابٌ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ
          3336- وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ) وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ بَهَذَا.
          هذا التَّعليق: رواه الإسماعيليُّ عن عبد الله بن صالحٍ، حدَّثنا محمَّد بن إسماعيل _وليس بالبخاريِّ_ حدَّثنا عبد الله بن صالحٍ، حدَّثنا اللَّيثُ به.
          ثمَّ ساق حديث يحيى بن أيُّوب مِنْ حديث سعيد بن الحكم بن أبي مريم، قال: حدَّثنا يحيى فذكره، قال: كانت بمكَّة امرأة مزَّاحة فنزلت على امرأةٍ مثلها فبلغ ذلك عائشة فقالت: صدق حبيبي سمعته صلعم يقول: ((الأرواح جنود مجنَّدة...)) الحديث.
          وفي «اعتلال القلوب» أنَّ المزَّاحة كانت بمكَّة، وأنَّهَا لمَّا قدمت المدينة نزلت على امرأةٍ مثلِها مزَّاحة، فذكرت ذلك عائشةُ لرسول الله صلعم، فقال: ((سبحان الله، الأرواح جنودٌ مجنَّدةٌ...)) الحديث.
          قال الإسماعيليُّ: ابن صالحٍ ليس مِنْ شرط «الكتاب» وكذا يحيى بن أيُّوب المصريُّ، وهو عنده ممَّن لا يخرجه في هذا «الكتاب» في الرِّواية إلَّا استشهادًا، ثمَّ جاء بهذا الحديث، وهما رَوَياهُ مرسلًا بلا خبرٍ، صار أقوى منه لو ذكرهما، وبنحوه ذكره أبو نُعيمٍ ثمَّ قال: كلتا الرِّوايتين ذكرهما مرسلًا بلا روايةٍ، وأُراه كان عنده عن أبي صالحٍ عن اللَّيث، فكفَّ عن ذكره.
          ورواه مسلمٌ في «صحيحه» مِنْ حديث سهيلٍ عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا.
          وقال ابن مَنْدَهْ في كتاب «الأرواح»: رواه إسماعيل الفَرويُّ عن عليٍّ المِيهَنيِّ عن الزُّهريِّ عن عروة، عن عائشة بزياداتٍ ورواه أبو هلالٍ المصريُّ عن ابن وَهْبٍ عن الزُّهريِّ عن عروة عن عائشة.
          ورواه أيضًا مِنْ حديث كَثير بن هِشامٍ عن جعفرِ بن بُرقانَ، عن يزيدَ بن الأصمِّ عن أبي هريرة ☺، قال: ورواه جماعةٌ عن جعفرٍ منهم: المعافى عمر بن أيُّوب، ومِنْ حديث الحَكم بن أَبان عن عِكرمة عن ابن عبَّاسٍ، ومِنْ حديث عبد الأعلى بن أبي المُساوِر عن عِكرمة عن الحارث بن عُمَيرة عن سلمان.
          ومِنْ حديث محمَّد بن أبي المُهاجر عن عَون بن عبد الله بن عُتبة عن ابن مسعودٍ.
          ومِنْ حديث أبي هاشم الرُّمَّانيِّ عن زاذانَ عن ابن عمر، ومِنْ حديث عبد الرَّحمن بن مَغْراءَ عن أزهرَ بن عبد الله الأَزْدي عن ابن عَجْلانَ عن سالمٍ عن أبيه عن عليٍّ.
          ومِنْ حديث درَّاجٍ عن عيسى بن مالكٍ عن ابن عمرٍو. قال الخطَّابيُّ: هذا يُتَأَوَّلُ على وجهين:
          أحدهما: أن يكون إشارةً إلى معنى التَّشاكل في الخير أو الشَّرِّ، والصَّلاح أو الفساد، فإنَّ كلَّ أحدٍ يحنُّ إلى شكله، ويؤيِّده ما أسلفناه.
          والثَّاني: أنَّه إخبارٌ عن ردِّ الخلق في حال الغيب على ما رُوي في الأخبار: إنَّ الله خلق الأرواح قبل الأجسام فكانت تلتقي فتَشامُّ كما تتشامُّ الخيل، فلمَّا التبستْ بالأجسام تعارفت بالذِّكر الأوَّل، وصار / كلٌّ منهما إنَّما يَعرف ويُنكِر ما سبق له مِنَ العهد القديم.
          وقال بعضهم: (جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ) أي: أجناسٌ مجنَّسةٌ، وقيل: جموعٌ مجمَّعةٌ، وهذا التَّعارف لأمرٍ جعله الله ╡ فيها وجبلها عليه، وأشبهُ ما فيه أن يكون تعارفُها موافقةَ صفاتِها الَّتي هي خُلقت عليها وتشابهها التي خُلقت بها.
          وقيل: لأنَّها خُلقت مجتمعةً ثُم فُرِّقت في أجسادها فمَنْ وافق قسيمَه أَلِفَه، ومَن باعده نافَرَهُ.
          وفي هذا دليلٌ على أنَّ الأرواح ليستْ بأعراض، فإنَّهَا كانت موجودةً قبل الأجسام، وأنَّهَا تبقى بعد فناء الأجسام، يؤيِّده أنَّ أرواح الشُّهداء في حواصل طيرٍ خُضْرٍ.
          فصلٌ: يُستفاد مِنْ هذا الحديث كما نبَّهَ عليه القُرْطُبيُّ أنَّ الإنسان إذا وجد مِنْ نفسه نفرةً ممَّن له فضيلةٌ أو صلاحٌ يُفتِّش على الموجب لها، فإنَّهُ ينكشف له، فيتعيَّن عليه أن يسعى في إزالة ذلك حتَّى يتخلَّص مِنْ ذلك الوصف المذموم، وكذلك القول فيما إذا وَجد مِنْ نفسه مَيلًا لِمَنْ فيه شرٌّ وشبهةٌ.
          وشاع في كلام النَّاس قولهم: المناسبة تُؤلِّف بين الأشخاص والشَّكل يَأْلَف شكلَه، ولمَّا نزل عليُّ بن أبي طالبٍ ☺ الكوفة قال: يا أهل الكوفة قد علمنا خيِّرَكم مِنْ شِرِّيركم فقالوا: لمَ ذاك؟ قال: كان معنا ناسٌ مِنَ الأخيار فنزلوا عند ناسٍ فعلمنا أنَّهُم مِنَ الأخيار، وكان معنا ناسٌ مِنَ الأشرار فنزلوا عند ناسٍ فعلمنا أنَّهُم مِنَ الأشرار وكان كما قال.
عَنِ المَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ                     فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارِنِ يَقْتَدِي
          فالأرواح إنَّمَا تتعارف بِمَنْ أبت طباعها، والإنسان يُعرف بقرينه ويعتبر حاله بإلفِهِ وصحبه، وقيل: لمَّا خلق اللهُ آدمَ أمرَ جبريلَ فأخذَ مِنْ وجهِ الأرض جميعًا فكانت منه طينةُ آدم، منها السَّهل والوعرُ والطَّيِّب والخبيث، وكلُّ ذلك يُرى في ولده في ألوانهم وأفعالهم وصفاتهم كما في الأرض، ومنه سُمِّي آدم، لأنَّهُ أُخذ ترابه مِنْ أَديم الأرض، فيؤالف كلُّ أحدٍ جنسَه على حسب ما أُخذ منه، وقد سلف هذا أيضًا.