التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب}

          ░39▒ بَابُ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:17-20]
          قَالَ مُجَاهِدٌ: الفَهْمُ فِي القَضَاءِ، {وَلَا تُشْطِطْ} [ص:22] لَا تُسْرِفْ، / {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ. إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص:22-23] يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: نَعْجَةٌ وَيُقَالَ لَهَا أَيضًا: شَاةٌ.
          {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} [ص:23] مِثْلُ {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37] ضَمَّهَا، {وَعَزَّنِي} [ص:23] غَلَبَنِي، صَارَ أَعَزَّ مِنِّي، أَعْزَزْتُهُ: جَعَلْتُهُ عَزِيزًا {فِي الْخِطَابِ} [ص:23] يُقَالُ: الْمُحَاوَرَةُ.
          {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص:24] الشُّرَكَاءِ {لَيَبْغِي} [ص:24] إِلَى قَوْلِهِ: {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص:24] قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: اخْتَبَرْنَاهُ، وَقَرَأَ عُمَرُ ☺: {فَتَّنَّاهُ} بِتَشْدِيدِ التَّاءِ.
          3421- ثمَّ ذكر عن مجاهدٍ قال: قلت لابن عبَّاسٍ: أنسجد في {ص}؟ فقرأَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} حتَّى أَتَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]، فقال ابن عبَّاسٍ: نبيُّكم صلعم ممَّن أُمِرَ أن يقتديَ بهم.
          3422- ثمَّ ساق عن ابن عبَّاسٍ ☻: ليس {ص} مِنْ عزائم السُّجود، وهذا سلف في سجود التِّلاوة [خ¦1069].
          الشَّرح: ({الْأَيْدِ}) القوَّة، ومنه قولهم: أيَّده الله، والأَوَّاب: المطيع، قاله قتادة، أو الرَّاجع عن الذُّنوب، قاله مجاهدٌ، وأوَّابٌ على التَّكثير، وإشراق الشَّمس: ضوءُها وصفاؤها.
          وقوله: ({وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19]) يجوز أن يكون المعنى في ({كُلٌّ}) الجبالَ والطَّيرَ، أي: يرجِّع مع داود التَّسبيحَ، ويجوز أن يعنيَ بقوله: ({كُلٌّ لَهُ}) داودَ والجبالَ والطَّير، ذكره ابن التِّين.
          وقوله: ({وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص:20]) قال مجاهدٌ: لم يكن في الأرض سلطانٌ أعزُّ مِنْ سلطانه، قال السُّدِّيُّ: كان يحرسه كلَّ ليلةٍ أربعةُ آلافٍ، وقال ابن عبَّاسٍ: شَدَدْنا مُلْكَه بأنَّ الوحيَ كان يأتيه، ورُوي عن ابن عبَّاسٍ اختصم رجلان إلى داود، فقال: هذا غصَبني بقرًا، فجحَده الآخر، فأوحى الله إلى داود أن يقتل الرَّجل الَّذي استعدى عليه، فأرسل داودُ إلى الرَّجل: إنَّ الله أوحى إليَّ أن أقتلك، فقال الرَّجل: أتقتلني بغير بيِّنةٍ؟! فقال: لا نَرَدُّ أمر الله فيك، فلمَّا عَرَف الرَّجلُ أنَّه قاتلُه قال: والله ما أُخِذتُ بهذا الذَّنب، ولكنِّي كُنْت أغلب والدَ هذا، فقتلتُه، فأَمَر به داودُ فقُتل، فاشتدَّت هيبةُ بني إسرائيل عند ذلك، فهو قوله: ({وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ}).
          وقوله: ({وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} [ص:20]) قيل: هي المعرفة بكتاب الله، وقال السُّدِّيُّ: النُّبوَّة، وقال مجاهدٌ: عدله.
          وقول مجاهدٌ: (فَصْلَ الْخِطَابِ الفَهم في القَضَاءِ)، وقال قَتادة: فصل القضاء، وقال الشَّعْبيُّ: الشُّهود والأيمان، ورواه الحكمُ عن مجاهدٍ، ورُوي عن الشَّعبيِّ أيضًا: هو أمَّا بعدُ.
          وقوله: ({إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21]) أي: علَوا، والمحراب كلُّ مكان مرتفعٍ.
          وقوله: ({بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22]) على جهة المسألة، كما تقول: رجلٌ يقول لامرأته كذا ما يجب عليه.
          ({وَلَا تُشْطِطْ} [ص:22]) لا تسرف، كما ذكره، وقال غيره: لا تَجُرْ، وشَطَّ يَشِطُّ _ثلاثيٌّ_ إذا بَعُد، وقُرئ به، ({سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:22]): قصد السَّبيل.
          وأصحُّ ما رُوي في قوله: ({أَكْفِلْنِيهَا} [ص:23]) قولُ عبد الله بن مسعودٍ وابن عبَّاسٍ ♥: ما زاد داود على أن قال: انزل لي عنها وضمَّها إليَّ.
          والمعنى على مَا يُرْوَى أنَّ داود سأل أُوريا أن يُطلِّق له امرأته كسؤال الرَّجل بيع جاريته، فعاتبه الله على ذلك لما كان نَبيًّا، وكان له تسعٌ وتسعون، أُنكر عليه أن يتشاغل بالدُّنيا.
          ({وَعَزَّنِي} [ص:23] غَلَبَنِي): كما في البخاريِّ، وعبارة غيره: ((قهرني))، قال الحسن وقَتادة: أي: قهره في المحاورة، ومنه: مَنْ عزَّ بزَّ.
          وقوله: ({لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} [ص:24]) أي: سؤاله نعجتَك.
          وقوله: ({وَظَنَّ دَاوُودُ} [ص:24]) أي: أيقن، وقراءة {فَتَنَاهُ} بتخفيف النُّون، يعني الملَكين.
          وقوله: (خَرَّ رَاكِعًا) أَي: ساجدًا، قال مجاهدٌ: سجد أربعين ليلةً مِنْ غير أن يسألَ ربَّه شيئًا.
          وقال سفيان: يُروى أنَّه أقام أربعين يومًا لا يرفع رأسه إلَّا لصلاةٍ أو حاجةٍ لا بدَّ له منها، قال قَتادة: ({وَأَنَابَ}) [ص:24] أي: تاب.
          وقوله: ({فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]) احتجَّ به مَنْ يرى أنَّا مخاطَبون بشرائع مَنْ قبلَنا مِنَ الأنبياء، وقيل: المراد به التَّوحيدُ، والسُّجودُ في {ص} عندنا سجدةُ شكرٍ خلافًا لمالكٍ، يدلُّ عليه قوله: (إنَّها ليسَ مِنْ عَزائمِ السُّجودِ)، وهو صريحٌ في الرَّدِّ عليه.