التوضيح لشرح الجامع البخاري

حديث أبرص وأعمى وأقرع في بنى إسرائيل

          ░51▒ حَدِيثُ أَبْرَصَ، وَأَعْمَى، وَأَقْرَعَ
          3464- ذكره مِنْ طريقين إلى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ رسولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: (إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَقْرَعَ وَأَبْرَصَ وَأَعْمَى بَدَا للهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ...) فساق الحديثَ بطوله.
          ورواه في أحد طريقيه عن محمَّدٍ، قال الجَيَّانيُّ: لعلَّه الذُّهْليُّ، وكذا ساقه أبو نُعيمٍ مِنْ حديث محمَّدٍ بن يحيى، وعلَّقَهُ البخاريُّ في الأيمان والنُّذور فقال: وقال عمرو بن عاصمٍ: حَدَّثَنَا همَّام به.
          وأبو عَمْرَة: بَشِيرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ بن مالكِ بن النَّجَّار له صُحبةٌ، قُتل بصِفِّين مع عليِّ كما سبق.
          ومعنى: (بَدَا لِلَّهِ) سبق في علم الله، فأراد فعلَه وإظهاره في الخارج وقيل: معناه: قضى الله أنْ يبتليَهم، وفي مسلمٍ: ((أراد الله)) وقيل: صوابه ((بدأ الله)).
          قال الخطَّابيُّ: ومَنْ قال فيه: (بَدَا لِلَّهِ) غَلِطَ لأنَّ البداء على الله غير جائزٍ، لأنَّه لغةً موضوع تغيُّر الأمر عمَّا كان عليه، تقول: بدا لي في هذا الأمر، أي: تغيَّر رأيي عمَّا كان عليه، فليس هو على ظاهره، بل المراد أظهر الله ذلك وأوقعه ولم يزل ذلك في مكنون غيبه مرادًا.
          وقوله: (يَبْتَلِيَهُمْ)، ورُوي أيضًا: ((يبليهم)) بإسقاط التَّاء المثنَّاة فوقُ، يريد الاختبار.
          وقوله: (قَذِرَنِي النَّاسُ) هو بكسر الذَّال المعجمة، أي: كرهوني، والأقرع: الَّذي ذهب شعرُ رأسه، والنَّاقةُ العُشَراء: هي الَّتي أتى على حملها تمامُ عشرة أشهرٍ مِنْ يوم أُرسل عليها الفحل، وزال عنها اسم المَخاض، وقيل: إلى أن تلد وبعدما تضع، وهي مِنْ أنْفَس الإبل.
          وقوله: (أَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا) أي: ذات ولدٍ.
          وقوله: (فَأُنْتِجَ هَذَانِ) كذا وقع وهي لغةٌ قليلةٌ، والفصيح عند أهل اللُّغة: نُتجت النَّاقة _بضمِّ النُّون_ ونَتَجَها أهلُها، والمعنى أصغر ما تلد عند ولادته، وقال بعضهم: أَنْتَجَتِ الفرسُ: حملت، فهو نَتُوجٌ، ولا يُقال: مُنْتِجٌ.
          وقوله: (تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ) هو بالحاء المهملة، أي: العهود والوسائل، فكأنَّه قال: تقطَّعت بي الأسباب الَّتي كنت أرجو التَّوصُّل بها، ويُروى بالجيم، ويُروى (الحِيَلُ) جمع حيلةٍ، وهو صحيحٌ، وقال ابن التِّين: أراد أنَّك كنت كذا، كقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} الآية [ص:23]، وهذا مِنَ المَعاريض التي فيها مندوحةٌ عن الكذب وضرب الأمثال للمخاطب ليتَّعظ.
          وقوله (فَلَا بَلَاغَ) أي: لا وصول إلى ما أُريد.
          وقوله (لَقَدْ وَرِثْتُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ)، وفي روايةٍ ((لَكَابرًا)) أي: كبيرًا عن كبير في الشَّرف والعزِّ، حمله بخلُه على نسيان نعمة الله عليه وعلى الكذب.
          وقوله: (فَوَاللهِ لَا أَحْمَدُكَ اليَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ) أي: لا أحمدك اليوم على ترك شيءٍ أو إبقائه لطيب نفسي بما تأخذه، وفي مسلمٍ: ((لا أجهدُك)) أي لا أشقُّ عليك بالرَّدِّ والمنَّة، يُقال: جَهَدْتُهُ وأَجْهَدْتُهُ أي: بلغت مشقَّته، وقد يكون هنَا مِنَ الجَهْدِ الَّذي يعيش به المُقِلُّ، أي: أقلِّل لك فيما تأخذه مِنْ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} [التوبة:79] كذا رواه الجمهور _بجيمٍ وهاءٍ_ وعند ابن ماهان بالحاء والميم، ووقع في البخاريِّ بالوجهين، لكنَّ الَّذي في الأصول ما قدَّمتُه، والمشهور في مسلمٍ بالجيم، وهنا بالحاء، وكأنَّ لفظة التَّرك محذوفةٌ مرادةٌ كما أسلفناه.
          وفي الحديث ذكرُ الرَّجُل بما فيه مِنَ العيوب وأنَّه ليس غِيبةً، وأنَّ النِّعم إنَّما تثبت بالشُّكر وردِّها إلى المُنعم، وفيه: أنَّ الصَّدقة تطفئ غضب الرَّبِّ جلَّ وعلا، وفيه إكرامُ الضعفاء، والحثُّ على ذلك، والحذرُ مِنْ كسر قلوبهم واحتقارهم.