التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب نزول عيسى ابن مريم

          ░49▒ بَابُ: نُزُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلاَمُ
          3448- ذَكر فيه حديث سعيد بن المسيِّب عن أبي هُرَيْرَةَ ☺، قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]
          3449- وحديثَ نافعٍ مولى أبي قَتادة الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺، قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ) تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَالأَوْزَاعِيُّ.
          الشَّرح: الحديث الثَّاني أخرجه مسلمٌ، وليس لنافعٍ في البخاريِّ ومسلمٍ غيرُه.
          و الأوَّل ذكره في البيوع إلى قوله: (لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ) [خ¦2222]، وكذا في أبواب الغصب [خ¦2476].
          وأخرجه مسلمٌ في الإيمان عن حسن الحُلْوَانيِّ وعبد بن حُميدٍ عن يعقوبَ عن أبيه عن صالحٍ عن الزُّهْريِّ عن ابن المسيِّب به.
          والبخاريُّ رواه هنا عن إسحاقَ، وهو ابن إبراهيم، وكذا ذكره الجَيَّانيُّ أنَّ ابن السَّكَن نسبه كذلك، وكذا رواه أبو نُعيمٍ عن أبي أحمد، حَدَّثَنَا عبد الله بن محمَّدٍ، حَدَّثَنَا إسحاقُ بن إبراهيم فذكره.
          ومتابعة الأوزاعيِّ رواها مسلمٌ عن زهير بن حربٍ، حَدَّثَنَا الوليد بن مسلمٍ، حَدَّثَنَا الأوزاعيُّ، حَدَّثَنَا الزُّهْريُّ، عن نافعٍ به وفي لفظ: ((إمامًا مُقْسِطًا))، وفي لفظ: ((حَكَمًا مُقْسِطًا))، وفي لفظ: ((عادلًا، ولَيَضَعَنَّ الجِزية ولتُتْرَكَنَّ القِلاصُ فلا يسعى عليها أحدٌ، ولتَذْهَبنَّ الشَّحناءُ والتَّباغضُ والتَّحاسُد))، وفي لفظ: ((وإمامكم منكم)).
          قال ابن أبي ذئبٍ: يعني: أمَّكم بكتاب الله ربِّكم، وسنَّةِ نبيِّكم، وفي لفظ: ((يقول له الإمام: صلِّ بنا فيقول: لا، إنَّ بعضكم على بعض أمراء)).
          وفي لفظٍ للطَّبرانيِّ في «أوسط معاجمه»، زيادة: ((يقتل الخِنزير والقِرد)) ثمَّ قال: لم يروِه عن رَوحٍ _يعني_ عن عاصم بن بَهْدَلة، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة مرفوعًا إلَّا محمَّدُ بن سُمَيعٍ.
          وفي لفظٍ لنُعَيم بن حمَّادٍ في كتاب «الفتن» مِنْ حديث ابن عُيَينة، عن الزُّهْريِّ، عن سعيدٍ: ((يوشكُ أن ينزل فيهم)) وفيه عن كعبٍ: ((يحاصر الدَّجَّالُ المؤمنين ببيت المقدس، فيصيبهم جوعٌ شَديدٌ حتَّى يأكلوا أوتار قِسِيِّهم، فبينا هم على ذلك إذ سمعوا صوتًا في الغَلَس فينظرون فإذا عيسى، وتُقام الصَّلاة، فيرجع إمام المسلمين، فيقول عيسى: تقدَّم فلك أُقيمت الصَّلاة، فيصلِّي بهم ذلك الرَّجلُ تلك الصَّلاة ثمَّ يكون عيسى الإمامَ بعدُ)).
          وفي لفظٍ: ((ينزل عند القَنْطَرة البيضاء على باب دمشقَ الشَّرْقيِّ تحملُه غَمامةٌ، واضعًا يديه على مَنْكِبَي مَلَكين، عليه رَيْطَتان إذا أكبَّ رأسَه قطرَ منه كالجُمان، فيأتيه اليهود فيقولون: نحن أصحابك، فيقول: كذبتم، والنَّصارى كذلك، إنَّما أصحابي المهاجِرون بقيَّة أصحاب المَلْحَمة، فيجد خليفتهم يصلِّي بهم، فيتأخَّر، فيقول له: صَلِّ فقد رضي الله عنك، فإنِّي إنَّما بُعثت وزيرًا ولم أبُعث أميرًا، قال: وبخروجه تنقطع الإمارة)).
          وفيه مِنْ حديث أبي أُمامة مرفوعًا: ((وإمامُ المسلمين يومئذٍ رجلٌ صالحٌ، فيُقال له: صَلِّ الصُّبح، فإذا كبَّر ودخل فيها نزل عيسى، فإذا رآه ذلك الرَّجل عرفَه فرجَع يمشي القَهْقَرى، فيضعُ عيسى يده بين كَتِفيه ويقول: صلِّ، ويصلِّي وراءه))، ومِنْ حديث أبي هريرة ☺: ((وتضعُ الحرب أوزارَها وينزل بين أذانين))، وعن ابن عمرو مرفوعًا: ((المحاصَرون ببيت المقدس إذ ذاك مئةُ ألف امرأةٍ، واثنان وعشرون ألفَ مقاتلٍ، إذ غَشِيَتهم ضَبابةٌ مِنْ غَمام إذ تكشَّفت عنهم مع الصُّبح، فإذا عيسى بين ظهرانيهم)) وفيه: ((وتبتزُّ قريشًا الإمارة وتكون الأرضُ كفاثورة الفضَّة)).
          قال أبو نُعيمٍ: حَدَّثَنَا أبو حَيْوة وأبو أيُّوب عن أَرْطأة عن عبد الرَّحمن بن جُبيرٍ، قال رسول الله صلعم: ((ليدركنَّ ابنَ مريم رجالٌ مِنْ أمَّتي هم مثلُكم أو خيرُهم مثلُكم))، وحَدَّثَنَا أبوعمر عن ابن لَهيعة، عن عبد الوهَّاب بن حسين، عن محمَّد بن ثابتٍ، عن أبيه، عن الحارث، عن عبد الله، عن رسول الله صلعم: ((إذا بلغ الدَّجَّالُ عَقَبَةَ أَفِيقٍ وقعَ ظلُّه على المسلمين، فيوترون قسيَّهم لقتاله، فيسمعون نداءً: أتاكم الغَوث ثلاثًا، وتشرق الأرضُ بنور ربِّها، فيقولون: عيسى وربِّ الكعبة، فيوافقونه وقد نزل على باب لُدٍ، فإذا نظر الدَّجَّال إلى عيسى قال: يا نبيَّ الله قد أُقيمت الصَّلاة، فيقول عيسى: يا عدوَّ الله أُقيمت لك فتقدَّم فصلِّ، فإذا تقدَّم يصلِّي قال: يا عدوَّ الله زعمتَ أنَّك ربُّ العالمين فلمَ تصلِّي؟ ويضربُه بمِقْرَعةٍ معه فيقتلُه)).
          ومِنْ حديث صفوانَ عمَّن حدَّثه عن أبي هريرة ☺ مرفوعًا: ((جِيئة عيسى هذه الأخيرةُ ليست كجيئته الأولى، تُلقى عليه مَهابة الموتِ يمسح وجوهَ رجالٍ ويبشِّرهم بدرجات الجنَّة)) ومِنْ حديث رجلٍ مِنَ الأنصار، عن بعض الصَّحابة مرفوعًا: ((يحاصرهم الدَّجَّال في جبلٍ مِنْ جبال الشَّام إذ أخذتهم ظُلمةٌ شَديدةٌ لا يبصر امرؤٌ فيها كفَّه، فينزل ابنُ مريم فيحسرُ عن أبصارهم فإذا بين أظهُرِهم رجلٌ عليه لأمتُه فيقولون: مَنْ أنت يا عبد الله؟ فيقول: أنا عبد الله ورسوله وروحه وكلمته عيسى بن مريم، اختاروا واحدةً مِنْ ثلاث: أن يَبعث الله تعالى على الدَّجَّال وجنوده عذابًا مِنَ السَّماء، أو يخسفَ بهم الأرض، أو يسلِّط عليهم سلاحَكم ويكفَّ سلاحَهم عنكم، فقالوا: يا رسول الله هذا أشفى لنفوسنا...)) الحديث.
          وعن كعبٍ: ((يقيم عيسى أربعًا وعشرين سنةً، منها عشرُ حِججٍ يبشِّر المؤمنين بدرجاتهم في الجنَّة)).
          وفي لفظٍ: ((يقيم أربعين سنةً)) وعن ابن عبَّاسٍ: ((يتزوَّج إلى قوم شُعيبٍ وهو خَتَنُ موسى وهم جذام، فيولد له فيهم ويقيم تسع عشرة سنةً، / لا يكون أميرٌ ولا شرطيٌّ ولا ملِكٌ)) وعن يزيد بن أبي حَبيبٍ: ((يتزوَّج امرأةً مِنَ الأزد ليعلم النَّاسُ أنَّه ليس بإلهٍ)) قال نُعيمٌ: حَدَّثَنَا عيسى بن يونس، عن هِشامٍ، عن صاحبٍ لأبي هريرة، عنه ☺ مرفوعًا: ((ينزل عيسى فيمكث في الأرض أربعين سنةً))، ثمَّ رواه عنه موقوفًا كذلك: لو قال للبَطْحاء سيلي عسلًا سالت عسلًا، ورفعه الطَّيالسيُّ في «مسنده» مِنْ حديث هِشامٍ عن قَتادة، عن عبد الرَّحمن بن آدم عنه.
          وعن أَرْطأة: يمكث عيسى بعد الدَّجَّال ثلاثين سنةً، كلَّ سنةٍ منها يأتي مكَّة فيصلِّي فيها، وفي «البعث» للبَيْهقيِّ مِنْ حديث ابن عمر ☻ مرفوعًا: ((يمكث عيسى فيهم أربعين لا أدري أربعين يومًا أو شهرًا أو عامًا)) وللطَّبرانيِّ مرفوعًا: ((ألا مَنْ أدرك منكم عيسى فليقرأ ◙)).
          قال أبو هريرة: إنِّي لأرجو أن أكون أوَّل مَنْ أقرأه السَّلام مِن أبي القاسم وآكلَ مِنْ جَفْنَتِه، وللقُرطبيِّ مرفوعًا: ((ينزل عيسى على ثلاث مئة رجلٍ وأربع مئة امرأةٍ كصُلَحاء مَنْ مضى، ويَتَزَوَّج ويُولَد له، ويَمْكث خمسًا وأربعين سنةً، ويُدْفن معي في قبري)) وأغرَبَ مَن قال: يُدْفن بالأرض المقدَّسة، وفي حديث عبد الله بن عمرٍو: ((يَمْكثُ في الأرض سبعًا، ويُولد له ولدان: محمَّدٌ وموسى)).
          فصلٌ: وليس في أيَّامه إمامٌ ولا قاضٍ ولا مفتٍ، قد قبض الله العلمَ وخلا النَّاسُ عنه، فينزل وقد علم بأمر الله في السَّماء ما يحتاج إليه مِنْ علم هذه الشَّريعة للحكم بين النَّاس والعمل فيه في نفسه، فيَجْتمع المؤمنون وَيُحكِّمُونه على أنفسهم إذ لا يصلح لذلك غيره، وقد ذهب قومٌ إلى أنَّ بنزوله يرتفع التَّكليف لئلَّا يكون رسولًا إلى أهل ذلك الزَّمان يأمرهم وينهاهم، وهو مردودٌ _كمَا قال القُرْطُبيُّ_ لأنَّه لا ينزل بشريعةٍ متجدِّدةٍ غيرِ شريعة نبيِّنا، إنَّما يكون مِنْ أتباعه، لقوله صلعم: ((لو كان موسى _وفي لفظٍ: عيسى_ حَيَّين ما وَسِعَهما إلَّا اتِّبَاعِي)) ولما أسلفناه مِنْ قول عيسى عن نفسه.
          فصلٌ: حكمة نزوله دون سائر الأنبياء مِنْ أوجهٍ:
          أحدها: تكذيب اليهود في دعواهم قتله وإلاهيَّته، فيتزوَّج ويموت.
          ثانيها: لدنوِّ أجلِه إذ التُّرابيُّ لا يُدفن إلَّا فيها عملًا بقوله: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55].
          ثالثها: لإظهار معجزة نبيِّنا حيث أخبر بنزوله عن الله.
          رابعها: لمَّا وجدَ في الإنجيل صِفة أمَّة محمَّدٍ حسب ما قال تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح:29] دعا ربَّه أن يجعله منهم، فأجاب دعاءه ورفعه، وأنزله آخرَ الزَّمان مجدِّدًا لِمَا دَرَسَ مِنْ دينه، وقتلُه للدَّجَّال مِنْ إقامة هذه الشَّريعة في إظهار الجهاد.
          فصلٌ: معنى يُوْشِكَنَّ: يَقْرُبَنَّ، وفيه: حَلِفُ الصَّادق ليؤكِّد قوله.
          وقوله: (وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ) ظاهرُه فعلُ ذلك، وقال ابن التِّين: أي يحرِّم اقتناءه وأَكْلَه، وفيه دِلالةٌ على نجاسة عينه وأنَّ سُؤْرَه محرَّمٌ، إذ الطاهر المنتفَع به لا يُؤمر بقتله وإتلافِه، نبَّه عليه الخطَّابيُّ والبَيْهقيُّ، وترجَم عليه في «سننه»: الدَّليل على أنَّه أسوأ حالًا مِنَ الكلب.
          ومعنى: (يَضَعُ الجِزْيَةَ) أي لا يقبل مِنْ أهل الكتاب إلَّا الإسلام، فيصير الدِّين واحدًا، ولا يَقبل مِنْ ذمِّيٍّ جزيةً استغناءً عنها، وقيل: يقتل أهل الذِّمَّة جميعًا، فلا يبقى مَنْ يؤدِّي جِزيةً، وهو نحو الأوَّل، وفي بعض الرِّوايات: ((ويضع الحرب)) وهو راجعٌ إلى هذا، فتصير الأديان واحدًا، ومعنى فيضِ المال أنَّ مَصْرِف الجِزية يكون إليه فتوضَع استغناءً عنها، وقد جاء: ((يفيض المال حتَّى لا يقبله أحدٌ)).
          فصلٌ: قوله (حتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ) إلى آخره، كأنَّه يُشِير إلى صلاح النَّاس وإقبالهم على الخير، فهم كذلك يُؤْثِرون الرَّكعة على الدُّنيا، ولذلك قرأ أبو هريرة ما قرأ، قاله ابن الجوزيِّ، وقال القُرْطُبيُّ: معناه أنَّ الصَّلاة حينئذٍ تكون أفضلَ مِنَ الصَّدقة لعدم الانتفاع بالمال يوم ذاك، وأهل الحجاز يُسمُّون الرَّكعة سجدةً.
          وقوله: (وَإِمَامُكُم مِنْكُمْ) يريد أنَّ محمَّدًا خاتمُ النَّبيِّين، وشريعته متَّصلةٌ إلى يوم القيامة، حصل في كلِّ قرنٍ منهم طائفةٌ مِنْ أهل العلم.
          فصلٌ: قال ابن الجوزيِّ: لو تقدَّم عيسى صلعم وصلَّى لوقع في النُّفوس إشكالٌ، ولقالت: أَتُراه قَدِمَ نائبًا أو مبتدئًا شرعًا؟! فصلَّى مأمومًا لئلَّا يتدنَّس بغبار الشَّهوة، وجهُ قوله: ((لا نبيَّ بعدي)).
          فصلٌ: قول أبي هريرة ☺: (واقْرَؤُوا إِنْ شِئتُم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159]) يُفهم منه أنَّ مِنْ أهل الكتاب مَنْ يؤمن بعيسى قبل موته بعد نزوله إلى الأرض، وقد بيَّنه أبو هريرة ☺ في غير هذا الموضع، فقال: ((قبل موت عيسى)).
          وقيل: إلَّا لَيؤمننَّ بمحمَّدٍ قبل موت محمَّدٍ، ورُجِّح الأوَّل بأنَّ محمَّدًا لم يجرِ له ذكرٌ فتُصرفَ الهاء إليه، وإنَّما ذلك في سياق ذكرِ عيسى.