التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}

          ░40▒ بَابُ: قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30]
          الرَّاجِعُ المُنِيبُ، وَقَوْلِهِ: {هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] وَقَوْلِهِ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12] أَذَبْنَا لَهُ عَيْنَ الْحَدِيدِ.
          {وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ:12] إِلَى قَوْلِهِ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ:13] قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانُ مَا دُونَ الْقُصُورِ {وَتَمَاثِيلَ} [سبأ:13] مِنْ نحاسٍ {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} [سبأ:13] كَحِيَاضِ الإِبِلِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالْجَوْبَةِ مِنَ الأَرْضِ {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] إِلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سبأ:14] الأَرَضَةُ {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} [سبأ:14] عَصَاهُ.
          {فَلَمَّا خَرَّ} [سبأ:14] إِلَى {الْمُهِينِ} [سبأ:14] {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص:32] مِنْ ذكر ربِّي {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:33] يَمْسحُ أَعْرَافَ الخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا، {الْأَصْفَادِ} [ص:38] الوَثاقُ.
          قَالَ مُجَاهِدٌ: {الصَّافِنَاتُ} [ص:31] صَفَنَ الْفَرَسُ: رَفَعَ إِحْدَى رجْلَيْهِ حتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ {الْجِيَادُ} [ص:31] السِّرَاعُ، {جَسَدًا} [الأعراف:148] شَيْطَانًا {رُخَاءً} [ص:36] طَيِّبَةً {حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] حَيْثُ شَاءَ، {فَامْنُنْ} [ص:39] أَعْطِ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] بِغَيْرِ حَرَجٍ.
          الشَّرح: ({سُلَيْمَانَ}) قد أسلفنا ترجمته عند ذكر والده في باب: قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء:163] [خ¦3417]، وفي الأوَّاب أقوال أُخَر:
          أحدها: الَّذي يُذنب ثمَّ يتوب ثمَّ يُذنب ثمَّ يتوب، قاله ابن المسيِّب.
          ثانيها: المسبِّح، قاله سعيدُ بن جُبيرٍ.
          ثالثها: المطيعُ، قاله قَتادة.
          رابعها: الَّذي يذكر ذنبه في الخلاء فيستغفر الله، قاله عُبيد بن عُميرٍ.
          خامسها: الرَّاحم.
          سادسها: التَّائب، وقال أهل اللُّغة: الرَّجَّاع الَّذي يرجع إلى التَّوبة.
          وقوله: ({هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]) أَي: أعطِني فضيلةً، مثل قول إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] وقال قَتادة: هبْ لي ملكًا لا أُسْلَبُهُ كما سُلِبتُهُ، قال ابن جَريرٍ: وكان بعض أهل العربيَّة يوجِّه معنى: ({لَا يَنْبَغِي}) لا يكون لأحدٍ مِنْ بعدي.
          وقال ابن عباسٍ: هبْ لي الشَّياطين حتَّى أملكَهم، وكذا الجنُّ والرِّيح، فوهب الله له ما لا يهبه لأحدٍ حتَّى تقوم القيامة.
          وقوله: ({غُدُوُّهَا شَهْرٌ} [سبأ:12]) سخَّرها الله له، فكان يركب ظهرَها بجنوده ومَنْ معَه، وتغدو به مِنَ الشَّام إلى إِصْطَخْرَ، وتروحُ فترجع إلى مكانها، فتسيرُ به مَسيرة شهرين في يومٍ، قال الحسن فيما رواه عبدٌ، عن رَوحٍ، عن عَوفٍ عنه: قال صلعم: ((إنَّ سليمان لمَّا أشغلته الخيلُ حتَّى فاتته صلاة العصر، غضب لله فعقر الخيل، فأبدله الله مكانها خيرًا منها وأسرع، الرِّيحَ الَّتي تجري به كيف يشاء)).
          وقوله في ({عَيْنَ الْقِطْرِ} [سبأ:12]) قال قَتادة: عينٌ مِنْ نُحاسٍ باليمن، وإنَّمَا يصنع النَّاس ما أخرج له، وكان يستعملها فيما يريد، / وعبارة النَّحَّاس: (أَسَلْنَا): أَذَبْنَا، قال الأعمش: سِيْلَتْ له كما يسيل الماء، وقيل: لم يُذَب النُّحاس لأحدٍ قبله، و({مَحَارِيبَ} [سبأ:13]) قال قَتادة والضَّحَّاك: مساجد، وقولُ مجاهدٍ فيه ذكره البخاريُّ، قال: ({وَتَمَاثِيلَ} [سبأ:13]) مِنْ رخامٍ وشَبَّة، قال مجاهدٌ: مِنْ نحاسٍ.
          وقول ابن عبَّاسٍ في تفسير الجَوابي الجَوْبَة: كالغائط مِنَ الأرض، وقيل: هي الحَفير المستدير في الأرض.
          ({رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13]): ثابتاتٍ لا يَزُلْنَ عن مكانهنَّ، تُرى بأرض اليمن قاله قَتادة، وقال مجاهدٌ: عظامٍ. وقال الداوديُّ: هي التي تجعل على بناءٍ ولها خواءٌ مِنْ أسفلها، يوقد عليها منه ليس لها أثافٍ لعِظَمِها.
          وأثرُ مجاهدٍ في ({مَحَارِيبَ}) و({الصَّافِنَاتُ}) رواه عبدُ بن حُميدٍ، عن رَوحٍ، عن شِبلٍ، عن ابن أبي نَجيحٍ عنه.
          وقوله: ({اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ:13]) قال مجاهدٌ: لمَّا ذكر اللهُ هذا قال داودُ لسليمان: إنَّ الله ذَكَرَ الشُّكر، فاكفِني صلاة النَّهار أكفِك صلاةَ الليل، قال: لا أقدر، قال: فاكفني صلاة الظُّهر، قال: نعم، فكفَاه.
          وقال عطاءٌ: صَعِدَ النَّبيُّ صلعم المنبر فتلا الآية، فقال: ((ثلاثٌ مَنْ أُوتيَهنَّ فقد أُوتيَ مثل ما أُوتي دَاود: العدلُ في الغضب والرِّضا، والقصدُ في الفقر والغنى، وخشية الله في السِّرِّ والعلانية)) وقال الزُّهريُّ: قولوا: الحمد لله، قال ابن عبَّاسٍ: شكرًا على ما أنعم الله به عليكم.
          وقوله: ({تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} [سبأ:14]) قال ابن مسعودٍ: أقام حولًا حتَّى أكلت الأَرَض عصاه فسقط، وقيل للعصا: مِنْسَأَةٌ لأنَّه يُؤخذ بها الشَّيءُ ويُساق، فهي مِفْعَلَةٌ مِنْ نَسَأْتُ إذا زجرتَ الإبِلَ، وقيل: إذا ضربتَها بالمِنْسأة.
          وقوله: ({تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} الآية [سبأ:14]) قال ابن عبَّاسٍ: كان إذا صلَّى رأى شجرةً يابسةً بين يديه، فيسألها: ما اسمك؟ فإن كان لغرسٍ غُرست، وإن كانت لدواءٍ كُتبت، فبينا هو يصلِّي ذات يومٍ إذا شجرةٌ يابسةٌ بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخَرُّوبُ، فقال: لأيِّ شيءٍ؟ فقالت: لخراب هذا البيت، فقال: عَمِّ عن الجنِّ موتي حتَّى يعلم الإنسُ أنَّ الجنَّ لا يعلمون الغيب، فنحتَها عصًا فتوكَّأ عليها حولًا لا يعلمون فسقطت، فعلمت الإنسُ أنَّ الجنَّ لا تعلم الغيب، فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سَنةً، فشكرت الجنُّ الأَرَضَة، فالمعنى تبيين أمر الجنِّ، وفي مصحف ابن مسعودٍ: {تَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ الجِنَّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ}، ومَنْ قرأ {تُبُيِّنَتِ الْجِنُّ} أراد: تَبَيَّنَتِ الإنسُ للجنِّ.
          وقوله: ({وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة:102]) يريد: اليهود، قال عطاءٌ: كانت الشَّيَاطين تَسْترقُ السَّمع، وتُلحِق بذلك حديثًا كثيرًا، وقيل: صَنعوا سحرًا ودفنوه تحت قوائم سريره، فلمَّا مات سليمان أظهروه، قالوا: إنَّما نال الملك بالسِّحر، فأكذبهم اللهُ بقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102].
          وقال ابن عبَّاسٍ: كان آصِفُ كاتبَ سُليمان، وكان يعلم الاسمَ، فكان يكتب على كلِّ شيءٍ يأمر به سليمان، ويدفنه تحت كرسيِّه، فلمَّا مات سليمان أخرجه الشَّياطين، فكتبوا بين كلِّ سطرين سِحرًا وكُفرًا وكذبًا، وقالوا: هذا الَّذي كان يعمل به سليمان، فأكفره الجهَّال وسبُّوه، ووقف العلماءُ، فلم يزل جهَّالُهم يسبُّونه حتَّى أنزل الله الآيةَ على نبيِّه.
          فصلٌ: قوله: ({حُبَّ الْخَيْرِ} [ص:32]) قال الفرَّاء: الخيلُ في كلام العرب والخيرُ بمعنًى.
          ({عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص:32]) قال قَتادة: عن صلاة العصر.
          وما ذكره في ({فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:33]) هو قول ابن عبَّاسٍ، وقيل: قَطع أسوقَها وأعناقَها، فأبدله الله مكانَها خيرًا منها، وسخَّر له الرِّيحَ، ويُحمل على أنَّ ذلك ذكاةٌ لها، وأُبيح له فعلُ ذلك.
          وما ذكره في ({الْأَصْفَادِ} [إبراهيم:49]) قال قَتادة: هي الأغلال.
          وما ذكره عن مجاهدٍ في (صَفْنٍ) رُوي عنه: الَّذي يرفع إحدى رجليه ويقف على ثلاثٍ، وقيل: الَّذي يقف على ثلاثٍ ويثني سُنْبُكَ الرَّابعة، أي: طرفَ الحافرِ، وقال الفرَّاء: الصَّافن: القائم، والجِياد: جمعُ جَوَاد، يُقال: رجلٌ جيِّد مِنْ قومٍ أَجْوَاد، وفرسٌ جوادٌ مِنْ خَيلٍ جِيادٍ، وقد فسَّره بالسِّراع.
          وقوله: ({جَسَدًا} شَيطانًا)، قيل: غلب شيطانٌ على مُلكِه أيَّامًا، وقيل: قتلت الشَّياطينُ ابنَه بعده خوفًا أن يملكَهم، وألقتْه على كرسيِّه، والجسد: الصُّورة الَّتي لا رُوح فيها، وهي الحيَّة، وقال الخليل: لا يُقال الجسدُ لغير الإنسان مِنْ خلقِ الأرض.
          وقوله: ({رُخَاءً} طيِّبةً)، قال قَتادة: هي اللَّيِّنة، وقال ابن عبَّاسٍ: مطيعةً، وقال الحسن: ليست بعاصفةٍ ولا هيِّنةٍ؛ بين ذلك.
          وقوله: ({حَيْثُ أَصَابَ}) حيث شاء، حكى الأصمعيُّ: أصاب الصَّوابَ فأخطأ الجوابَ، أي: أراد الصَّواب.
          وقوله: ({بِغَيْرِ حِسَابٍ}) بغير حَرَجٍ، هو قول مجاهدٍ، قال الحسن: ليس أحدٌ يُنْعَمُ عليه إلَّا ويحاسَب على النِّعمة إلَّا سليمان، ثمَّ قرأ هذه الآية.