التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قصة يأجوج ومأجوج

          ░7▒ بَابُ: قِصَّةِ يَأْجُوجَ، وَمَأْجُوجَ: /
          وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف:94]، وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} الآيات [ص:138].
          (سببًا) طريقًا {زُبَرَ الْحَدِيدِ} [الكهف:96] وَاحِدُهَا زُبْرَةٌ وَهِيَ: الْقِطَعُ، {حتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف:96] يُقَالُ عَنِ ابن عَبَّاسٍ: الجَبَلَيْنِ، وَالسُّدَّيْنِ: الجَبَلَيْنِ، {خَرْجًا} [الكهف:94] أَجْرًا {أُفْرِغْ} [الكهف:96] أَصُبُّ {قِطْرًا} رَصَاصًا، وَيُقَالُ: الْحَدِيدُ، وَيُقَالُ: الصُّفْرُ، وَقَالَ ابن عَبِّاسٍ: النُّحَاسُ.
          {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] يَعْلُوهُ، اسْتَطَاعَ: اسْتَفْعَلَ مِنْ طُعْتُ لهُ، فَلِذَلِكَ فُتِحَ أسْطَاعَ يَسْتطِيعُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَطَاعَ يَسْتَطِيعُ {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} [الكهف:98] أَلْزَقَهُ بِالأَرْضِ، وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ لَا سَنَامَ لَهَا، وَالدَّكْدَاكُ مِنَ الأَرْضِ: مِثلُهُ حتَّى صَلُبَ وَتَلَبَّدَ.
          {حتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء:96] قَالَ قَتَادَةُ: {حَدَبٍ} أَكَمَةٌ وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلعم: رَأَيْتُ السَّدَّ مِثْلَ الْبُرْدِ المُحَبَّرِ، فَقَالَ: ((رَأَيْتَهُ)).
          الشَّرح: اختُلِفَ في ذي القرنين لمَ سُمِّيَ بذلك؟ فقال عليٌّ: لمَّا دعا قومَه ضربوه على قرنه الأيمن فمات، ثمَّ بُعث ثمَّ دعاهم فضربوه على الأيسر فمات ثمَّ بُعث، وفيكم مثله نُرى أنَّه عنى نفسه وذلك أنَّه ضُرب على رأسه يوم الخندق ثمَّ ابنِ مُلجَمٍ. وقيل: لأنَّه بلغ قُطْرَي الأرض المشرقَ والمغربَ، وقيل: مَلَكَهما، وقيل: لأنَّه ملك فارس والرُّوم، وقيل: كان ذا ضَفيرتين مِنْ شَعرٍ، والعرب تُسمِّي الخَصلة مِنَ الشَّعر قرنًا، وقيل: كان له ذؤابتان، وقال ابن وَهْبٍ: كان له قَرنان صَغيران تُواريهما العِمامة، وقيل: كان لتاجِه قرنان.
          واخْتُلِفَ فيه هل كان عبدًا أو ملِكًا أو ملَكًا أو نبيًّا على أقوال:
          أحدها: وهو قول عليٍّ: كان عبدًا صالحًا أحبَّ اللهَ فأحبَّه ونصح الله فنصحه، ضُرب على قرنه الأيمن، وذكر ما سلف، ذكره ابن مَرْدَوَيْهِ، ومِنْ حديث عُبيْد الله بن موسى بن بسَّامٍ الصَّيْرَفيِّ عن أبي الطُّفيل قال: سأل ابنُ الكواءِ عليًّا فذكره، وذكره أيضًا مِنْ حديث عليٍّ مرفوعًا: ((هو عبدٌ ناصَحَ الله فنصحَه)).
          ثانيها: أنَّه مَلِكٌ، رُوي عنْ رسول الله صلعم أنَّه قال: ((هو مَلِكٌ مسح الأرض مِنْ تحتها بالأسباب)).
          ثالثها: أنَّه كان مَلَكًا، قاله عمر، وذلك أنَّه سمع رجلًا يقول: يا ذا القرنين، فقال عمر: اللَّهم غَفْرًا، أما رضيتم أنْ تتسمَّوا بالنبيِّين حتَّى تسمَّيتم بالملائكة.
          رابعها: أنَّه نبيٌّ، رواه جابرٌ عن مجاهدٍ، عن عبد الله بن عمرٍو قال: كان نبيًّا، وفي «صحيح الحاكم» مِنْ حديث أبي هريرة يرفعه: ((ما أدري ذا القرنين كان نبيًّا أم لا)) ثمَّ قال: صحيحٌ على شرط الشَّيخين ولا أعلم له علَّةً.
          وقد وقع الخُلف في نبوَّة الخَضِر ولُقْمان وعُزَيْرٍ ومَرْيَم وأمِّ موسى، هل كانوا أنبياءَ أو عِبادًا صالحين، ذكره ابن التِّين وغيره، ومَنْ قال بنبوَّته احتجَّ بقوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} [الكهف:84].
          وروى ابنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حديث سُفيان، عن الفضل بن عطيَّة، عن عبد الله بن عُبيد بن عمير أنَّ ذا القرنين حجَّ ماشيًا فسمع به إبراهيمُ الخليلُ فتلقَّاه، وروى ابن أبي شيبة في «مصنَّفه» قيل لعليٍّ: كيف بلغ ذو القرنين المشرق والمغرب؟ قال: سُخِّر له السَّحاب وبُسِط له النُّور ومُدَّ له الأسباب.
          واخْتُلِفَ في اسمه على قولين:
          أحدهما: عبد الله بن الضَّحَّاك بن معدٍ، رواه ابن مَرْدَوَيْهِ مِنْ حديث إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حَبيبة عن داود، عن عِكرمة، عن ابن عبَّاسٍ، فذكره.
          ثانيهما: الصَّعبُ بن ذي مراثدَ، قاله عبد الملك بن هِشام في «تيجانه» مِنْ حديث أبي إدريسَ عن وَهْبٍ، عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ سُئل: ممَّن كان ذو القرنين؟ فقال: مِنْ حِمْيَر، وهو الصَّعب بن ذي مراثدَ، وهو الَّذي مكَّن الله تعالى له، وآتاه مِنْ كلِّ شيءٍ سببًا، وبنى السَّدَّ على يأجوجَ ومأجوج، قيل: فالإسكندر الرُّوميُّ؟ قال: كان رجلًا صالحًا.
          وفي «المحبَّر في ذكر ملوك الحِيرة» أنَّهُ الصَّعب بن قرين، وفي «الوشاح» لابن دُريد: ابن الهمَّال، فتحصَّلنا في أبيه على هذا القول على ثلاثة أقوالٍ، وقال كعب الأحبار: الصَّحيح عندنا مِنْ علوم أحبارنا وأسلافنا أنَّهُ مِنْ حِمْيَر، وأنَّهُ الصُّعيب بن ذي مراثدَ.
          والإسكندر رجلٌ مِنْ بني ثَوبانَ مِنْ ولد عيصو بنِ إسحاقَ، ورجالُه أدركوا المسيح، منهم: أَرسْطَاطَالِيسُ ودانِيالُ، وفي رواية وَهْبٍ عن ابن عبَّاسٍ: أنشدني نافعُ بن الأزرق لأبي كربٍ أسعد يذكر بيت الله، وجدَّه الصَّعبَ ذا القرنين:
بَيْتٌ لَهُ يُوفِي الحَجِيجُ نُذُورَهُمْ                     ويُوَدِّعُون طَوَافَهُ لِلْمَوْعِدِ
          إلى أن قال:
فَلَقَدْ أَذَلَّ الصَّعْبُ صَعْبَ زَمَانِهِ                     وَأَنَاطَ عَنْوًا عِزَّةً بِالفَرْقَدِ
          في أبياتٍ ذكرها، وذكره أيضًا امرُؤ القيس وقسُّ بن ساعدةَ في شعرهما، وسَمَّيَاه الصَّعب، وذكره أيضًا الرَّبيع بن ضبُعٍ الفَزَاريُّ المعمَّر في عدَّة أبياتٍ له، وكذا طَرَفَةُ بن العَبْدِ وأَوْسُ بن حَجَرٍ السَّعْدِيُّ.
          وفيه قولٌ ثالثٌ: أنَّ اسمه مَرْزُبَى بن مذربه، ذكره ابن إسحاق، وقيل اسمه هرمس، وقيل هرديس، وقيل أفريدون بن أقفيان، وقيل قيصرة، ذكره مقاتل في «تفسيره»، وفي «غرر التبيان»: اسمه الإسكندريس، وهو مِنْ بني عيصو، وعند الطَّبَريِّ: الإسكندر، وهو إسكندروس بن فلقوس، وعند المسعوديِّ: فيلتس، وكانت أمُّه زنجيَّةً أُهديت لدارا الأكبر فوجد منها نكهةً استثقلها، فعولجت ببقلة يُقال لها: أندروس فحملت منه بدارَا الأصغر، فلمَّا وضعت ردَّها فتزوَّجها فيلتس، فحملت منه الإسكندر، اشتُقَّ اسمُه مِنْ تلك البَقلة.
          قال ابن هِشامٍ: لمَّا ولي الصَّعب ذو القرنين تجبَّر تجبُّرًا عظيمًا حتَّى أنَّهُ لم يكن في التتابعة أشدَّ تجبُّرًا منه، ولا أعظم سلطانًا، ولا أشدَّ سطوةً، وكان له عرشٌ مِنْ ذهبٍ مصمَتٍ، مرصَّعٍ بالدُّرِّ والياقوت، وكان عظيم الحجاب، فبينا هو ذات ليلةٍ رأى رؤيا عظيمةً وقومًا تخطَّفُهم النِّيران، فسأل فقال: هؤلاء الجبَّارون، ثمَّ رأى الجَنَّة وما أعدَّ الله فيها لأوليائه.
          وقيل له: يا صعبُ اخلع عنك رداء الكِبْرَ وتواضعْ، فلمَّا أصبح تواضَعَ وبرز للنَّاس، وأَمَر بالعرش فهُتك ونُهب، ثمَّ رأى في اللَّيلة الثَّانية كأنَّهُ نُصب له سلَّمٌ إلى السَّماء، فرَقِيَ إلى السَّماء ومعه سيفٌ صلتٌ، فعلَّقه بالثُّريِّا، ثمَّ أخذ القمرَ بيده اليسرى والشَّمسَ بيده اليمنى، ثمَّ سار / وتبعه الدَّراريُّ والنُّجوم، ونزل بهما إلى الأرض، فلم يزل يمشي بهما والنُّجوم تتبعُه، فلمَّا كان في اللَّيلة الثَّالثة: رأى كأنَّهُ جاع جوعًا شديدًا، فصارت له الأرض غذاءً، فأقبل عليها يأكلها جبلًا جبلًا، وأرضًا أرضًا حتَّى أتى عليها كلِّها، ثمَّ عطش عطشًا شديدًا، فأقبل على البحار، فشربها بحرًا بحرًا، حتَّى أتى على السَّبعة الأبحرِ، ثمَّ أقبل على البحر المحيط يشربه، فلمَّا أمعن فيه رأى طينًا وحَمَأة سوداء فلم يسغ له فتركه.
          ثمَّ رأى في اللَّيلة الرَّابعة كأنَّ الإنس والجنَّ أتَوه مِنَ الأرض كلِّها، وكذلك البهائم والأنعام، وأقبلت الرِّياح فاستدارت فوقه، فأرسل أممًا مِنَ الجنِّ والإنس مع ريح الصَّبا إلى المغرب، وأممًا منهما مع الدَّبُور إلى يمين الأرض، وأمر البهائم والأنعام فذهبت بهم الرِّياح في كلِّ وجهٍ، ثمَّ أمر الهوامَّ فذهبت في سبيل مَنْ مضى، فلمَّا أصبح أرسل إلى أهل مشُورته فقصَّ عليهم ما رأى، فقالوا: اجمعِ العلماءَ بهذا الأمرِ فجمعَهم، فقالوا: لم تدرك عقولُنا هذه الرُّؤيا، فقال له شيخٌ منهم: ليس على وجه الأرض مَنْ يفسِّر رؤياك إلَّا نبيٌّ ببيت المقدس، فأمر بالجنود فجُمِعَت وجُعل على مقدِّمته ألفُ ألفِ فارسٍ، فلمَّا انتهى إلى البيت الحرام طاف به حافيًا راجلًا، ثمَّ سار إلى القدس يسأل عن النَّبيِّ الَّذي وُصف له، فلمَّا رآه سأله عن اسمه فقال: الخَضِرُ بن خضرونَ بن عَمومَ بن يَهُوذا بن يعقوبَ بن إسحاقَ، فقال: له الصَّعب: أيُوحَى إليك؟ قال: نعم يا ذا القرنين، فقال: وما هذا الَّذي دعوتني به؟ قال: أنت صاحب قرنَي الشَّمس.
          فكان أوَّلَ مَنْ سمَّاه بذلك، وأخبره بمنامه، فقال: تملك الأرض ومَنْ عليها، والبحر المحيط تبلغ به غاية، حتَّى يأتيَك شيءٌ لا تستطيعه فترجع، والإنس والجنُّ تنقلهم مِنْ مكانٍ إلى مكانٍ، والأنعام والبهائم تُسخَّر لك، والرِّياح كذلك تَصرف ضرَّها عن أيِّ بلدٍ شئتَ، وتصرفها إلى أي بلد شئت، وتجاوز مغرب الشَّمس، فانهض بأمر الله فإنَّهُ يُعينك، وسار معه الخضرُ فطاف الأرضَ كلَّها، وعمل السَّدَّ، وعرضُه خمسةُ آلاف ذراعٍ، وطوله ألفُ ذراعٍ، وبنى جسرًا دونه إلى أرمينية مسيرةَ سبعةِ أشهر.
          وعن وَهْبٍ: لمَّا نزل الصَّعبُ حِنْوَ قراقر مِنْ أرض العراق مرض ثمانيةَ أيَّامٍ، فلمَّا مات غاب الخَضِرُ فلم يظهر بعده إلَّا لموسى، ورثاه الأعشى وغيرُه، قال ابن هشامٍ: فلمَّا مات بعد تعميره ألفي سنةٍ فيما ذكر قُسُّ بن سَاعدةَ، وَلِيَ مكانه ابنُه أبرهةُ الوضَّاح، وكان سمَّاه باسم إبراهيم الخليل.
          وهذه فوائدُ متعلِّقةٌ به:
          روى أبو العبَّاس في «مقامات التَّنزيل» مِنْ حديث السُّدِّيِّ عن مجاهدٍ عن أبي مالكٍ، عن ابن عبَّاسٍ، أنَّ اليهود قالوا لرسول الله صلعم: أخبرْنا عن نبيٍّ لم يذكره الله تعالى في التَّوراة إلَّا في مكانٍ واحدٍ قال: ((ومَنْ هو؟)) قالوا: ذو القَرنين، الحديث.
          وفي «فضائل القدس» لأبي بكرٍ الواسطيِّ الخطيب: كان ذو القَرنين أوسعَ أهلَ الأرضِ عدلًا، وكان آخر الملوك الخيِّرين، ومات ببيت المقدس وزعم أهل العلم أنه بدومة الجندل، رجع إليها من القدس، ولم يكن له بالقدس كثيرُ عمرٍ، وكان عدد ما سار في البلاد منذ يوم بعثه الله إلى يوم قُبض خمسَ مئة عامٍ.
          وذكر حديثًا مرفوعًا مِنْ حديث إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله عنْ أبيه عن جدِّه: ((كان الفيلسوف مِنْ أهل المَلِك تزوَّج امرأةً مِنْ غسَّان، وكانت على دين الرُّوم، فولدت ذا القرنين فسمَّاه أبوه الإسكندر)) وإنَّما نُسِبَ إلى الرُّوم لأنَّ أباه خلَّفه صغيرًا في حَجْر أمِّه يتيمًا، فلذلك جُهِلَ أبوه ونسبوه إلى أمِّه.
          ورُوي مِنْ طريق عُقبةَ بن عامرٍ الجُهنيِّ بإسنادٍ فيه جهالةٌ: قال رسول الله صلعم لطائفةٍ جاؤوه مِنَ اليهود: ((جئتم تسألوني عن ذي القَرنين، وكيف كان أوَّلُ شأنه؟ وسأخبركم بما تجدونه في كتابكم: إنَّه كان غلامًا مِنَ الرُّوم فأتى ساحلًا مِنْ سواحل مصرَ، فبنى به مدينة تُسمَّى الإسكندريَّة)) وفيه: ((وأتى السَّدَّ، وهما جبلان زَلِقان، ينزل عنهما كلُّ شيء فبناهما...)) الحديثَ.
          فصلٌ: قوله {سَبَبًا} طريقًا وقال ابن عبَّاسٍ: عِلمًا، يريد علمًا يسير به في أقطار الأرض، وقال مجاهدٌ: منزلًا بين المشرق والمغرب.
          وقوله: {فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي: ذات حَمَأة ومَنْ قرأ {حامية} فقيل: معناه مثله، وقيل: حارَّة، ويجوز أن تكون حارَّة وهي ذات حمأةٍ، وتفسيرُ ابنِ عبَّاسٍ الأوَّلُ والثَّاني في النَّحَّاس، ذكرهما جُويبر عن الضَّحاك عنه.
          وأصلُ {اسْطَاعُوا} استطاعوا فاجتمعت التَّاء والطَّاء وحقُّهما إدغام التَّاء في الطَّاء، إلَّا أنَّهم لو فعلوا ذلك لجمعوا بين السَّاكنين السِّينِ والتِّاءِ إذ لا سبيل إلى فتح سينِ الاستقبال، وقرأ حمزة: {فَمَا اسطَّاعُوا} جمع بين السَّاكنين فرأَوا أنَّ حذف التَّاء أولى، ومَنْ أجاز (أَسطَاعَ) _بفتح الهمزة_ قال: هو أطاع، وإنَّما عُوِّضت السِّين في الحركة السَّاقطة مِنْ عينه، يريد: الواو.
          والزُبُرُ: القِطَع الكبارُ مِنَ الحديد.
          وقوله: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} أي: ليس لهم بنيانٌ ولا قُمُصٌ، قال الحسن: إذا طلعت الشَّمس نزلوا الماء حتَّى تغرب، (والسَُّدَّيْنِ) بالفتح والضمِّ بمعنى، قاله الكسائيُّ، وقال أبو عمرٍو وغيره: ما كان مِنْ صنع الله فبالضَّمِّ، وما كان مِنْ صنع الآدميِّ فبالفتح، وقيل: بالفتح ما رأيتَه، وبالضَّمِّ ما استتر عن عينك.
          وقوله: (اسْطَاعَ استفعَلَ مِنْ طُعتُ لَهُ، فلذلك فُتِح) يريد فتح الفاء في مستقبله، لأنَّهُ لو قال كما قال بعض أهل اللُّغة: أَسطاع بفتح الهمزة لكان مستقبله بضمِّ الفاء.
          والحديث المعلَّق في رؤية السَّدِّ أسنده ابن مَرْدَوَيْهِ في «تفسيره» عن سليمان بن أحمد، حدَّثنا أحمد بن محمَّد بن يحيى، حدثنا أبو الجُماهر، حدَّثنا سعيد بن بَشيرٍ عن قَتادة، عن رجلين، عن أبي بَكرة الثَّقفيِّ، ((أنَّ رجلًا أتى رسول الله صلعم فقال: يا رسول الله إنَّي قد رأيته _يعني السَّدَّ_ فقال: كيف هو؟ قال: كالبُرد المحبَّر، قال: قد رأيتَه)) قال: وحدَّثنا قَتادة أنَّهُ قال: ((طريقُةٌ حمراءُ مِنْ نحاسٍ وطريقةٌ سوداءُ مِنْ حديدٍ)).
          وقال نُعيم بن حمَّادٍ في كتاب «الفتن»: حدَّثنا مَسْلَمة بن عليٍّ، حدَّثنا سعيدُ بن بَشيرٍ، عن قَتادة قال رجلٌ: ((يا رسول الله قد رأيت الرَّدم وإنَّ النَّاس يكذِّبونني فقال: كيف رأيته؟ قال: رأيته كالبُرد المحبَّر قال: صدقت، والَّذي نفسي بيده لقد رأيتُه ليلة الإسراء لَبِنَةً مِنْ ذهبٍ ولبنةً مِنْ رصاصٍ)).
          وقوله: (كَالبُرْدِ المُحَبَّرِ) أي: حسن / الصَّنعة فيه رقمٌ، وقال الحَوفيُّ في «تفسيره»: بُعد ما بين الجبلين مئة فرسخٍ، فلمَّا أخذ ذو القرنين في عمله حفر له أُسًّا، حتَّى بلغ الماء، وجعل عرضه خمسين فرسخًا، وجعل حشوه الصُّخور، وطينه النُّحاس المذاب، فبقي كأنَّهُ عرقٌ مِنْ جبلٍ تحت الأرض، ثمَّ علَّاه وشرَّفه بزُبر الحديد والنُّحاس المذاب، وجعل خلاله عرقًا مِنْ نحاسٍ، فصار كأنَّه بُرْدٌ محبَّر.
          ومعنى: ({حَدَبٍ}) أَكَمَةٍ، أي موضعٍ مرتفعٍ.