شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: كيف يبايع الإمام الناس؟

          ░43▒ باب: كَيْفَ يُبَايِعُ الإمَامُ النَّاسَ.
          فيه: عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ: (بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلعم على السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ في الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ، أَوْ نَقُولَ، بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لا نَخَافُ في اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ). [خ¦7199] [خ¦7200]
          وفيه: أَنَسٌ: (خَرَجَ النَّبيُّ صلعم في غَدَاةٍ بَارِدَةٍ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ الخَيرَ خَيرُ الآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ والمُهَاجِرَةِ)
          فَأَجَابُوا:
نَحنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا                     عَلَى الجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا [خ¦7201]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: (كَانَ النَّبيُّ صلعم إذا بَايَعنَاهُ عَلى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ). [خ¦7202]
          وفيه: ابْنُ دِينَارٍ: شَهِدْتُ(1) ابْنَ عُمَرَ حِينَ اجْتَمَعَ النَّاسُ على عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ: إِنِّي أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْد ِاللهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ على سُنَّةِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا اسْتَطَعْتُ، وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ. [خ¦5090]
          وفيه: جَرِيرٌ قَالَ: (بَايَعْتُ النَّبيَّ صلعم على السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُّلِ مُسْلِّم). [خ¦7204]
          وفيه: سَلَمَةُ بنُ الأَكوَعِ: (قُلْتُ عَلى أيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمُ النَّبيَّ صلعم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: على الْمَوْتِ). [خ¦7206]
          وفيه: الْمِسْوَرُ: أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَسْتُ أَنَا بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ على هَذَا الأمْرِ وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ إلى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ، فَمَالَ النَّاسُ عَلَيه حَتَّى مَا يُرَى أَحَدٌ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلا يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ على عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ التي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ.
          قَالَ الْمِسْوَرُ: طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا، فَوَاللهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ الثَّلَاثَ(2) بِكَبِيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ فَادْعُ لِيَ الزُّبَيرَ وسَعْدًا(3)، فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِي(4) فَقَالَ: ادْعُ لي عَلِيًّا، فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ على طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لي عُثْمَانَ، فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ(5)، فَلَمَّا صَلَّى اِلنَّاسِ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَأَرْسَلَ إلى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إلى أُمَرَاءِ الأجْنَادِ وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ ☺، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِيُّ، إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ في أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ، فَلا تَجْعَلَنَّ على نَفْسِكَ سَبِيلًا، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ على سُنَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ والْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الأجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ. [خ¦7207]
          قال المُهَلَّب: اختلفت ألفاظ بيعة النبيِّ صلعم فروي: (بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلعم على السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ). وروي: ((على الجهاد)). وروي: (عَلَى المَوتِ)، وقد بيَّن ابن عمر وعبد الرحمن بن عوف في بيعتهما ما يجمع معاني البيعة كلَّها، وهو قولهم: (عَلَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ وَعَلَى سُنَّةِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ).
          وقوله: (فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ) لقوله ╡: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:286].
          وأمَّا قوله: (فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ) فهذه بيعة العقبة الثانية، بايعوه على أن يقاتلوا / دونه، ويهلكوا أنفسهم وأموالهم. قال ابن إسحاق: وكانت بيعة الحرب حين أذن الله لرسوله في القتال شروطًا سوى شرطه، حدَّثني عُبَاْدَة بن الوليد بن عُبَاْدَة بن الصَّامت عن أبيه عن جدِّه عُبَاْدَة بن الصَّامت قال: ((بايعنا رسول الله صلعم بيعة الحرب على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا، ومنشطنا ومكرهنا وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحقِّ أينما كنَّا لا نخاف في الله لومة لائمٍ)).
          وكان عُبَاْدَة من الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى بيعة النساء. قال ابن إسحاق: وكانوا في العقبة الثانية ثلاثةً وسبعين رجلًا من الأوس والخزرج وامرأتين.
          قال المُهَلَّب: قوله: (وَلَا نُنَازِعَ الأَمرَ أَهلَهُ)؛ فيه دليلٌ قاطعٌ على أنَّ الأنصار ليس لهم في الخلافة شيءٌ كما ادَّعاه الحُبَاب وسعد بن عُبَاْدَة، ولذلك ما اشترط عليهم النبيُّ صلعم هذا أيضًا.
          وأمَّا الرهط الذين ولَّاهم عمر فمنهم: عثمان وعليٌّ والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقَّاص. وقال عمر ☺: إن عجل بي أمرٌ فالشورى في هؤلاء الستَّة الذين توفِّي رسول الله صلعم وهو عنهم راضٍ.
          قال الطبريُّ: فلم يكن أحدٌ(6) من أهل الإسلام يومئذٍ له منزلتهم في الدين والهجرة والسابقة والفضل والعلم بسياسة(7) الأمَّة.
          فإن قيل: فقد كان في(8) هؤلاء الستَّة من هو أفضل من صاحبه، والمعروف من مذهب عمر أنَّ أحقَّ الناس بالإمارة أفضلهم دينًا، وأنَّه لا حقَّ للمفضول فيها مع الفاضل، فكيف جعلها في قوم بعضهم أفضل من بعضٍ؟
          قيل: إنَّما أدخل الذين ذكرت في الشورى للمشاورة والاجتهاد للنظر للأمَّة؛ إذ كان واثقًا منهم بأنَّهم لا يألون المسلمين(9) نصحًا فيما اجتمعوا عليه، وأنَّ المفضول منهم لا يترك، والتقدُّم على الفاضل، ولا يتكلَّم في منزلةٍ غيره أحقُّ بها منه، وكان مع ذلك عالمًا برضا الأمَّة بمن رضي به النفر الستَّة؛ إذ كان الناس لهم تبعًا وكانوا للناس أئمَّةً وقادةً، لا أنَّه كان يرى للمفضول منهم حقًّا مع الفاضل في الإمامة.
          وفيه أيضًا: الدلالة على بطلان ما قاله أهل الإمامة من أنَّها في الخيار وأشخاص قد وقف عليها رسول الله صلعم أمَّته فلا حاجة بهم إلى التشاور فيمن يقلِّدونه أمرها، وذلك أنَّ عمر جعلها شورى بين(10) النفر الستَّة ليجتهدوا في أولاهم بها، فلم ينكر ذلك أحدٌ من النفر الستَّة، ولا من غيرهم من المهاجرين والأنصار، ولو كان فيهم ما قد كان وقف عليه رسول الله صلعم بعينه ونصَّبه لأمَّته كان حريًّا أن يقول منهم قائلٌ: ما وجه التشاور في أمرٍ قد كفيناه ببيان الله تعالى لنا على لسان رسوله؟
          وفي تسليم جميعهم له ما فعله ورضاهم بذلك(11) أبين البيان، وأوضح البرهان على أنَّ القوم لم يكن عندهم من رسول الله صلعم في شخصٍ بعينه عهدٌ، وأنَّ الذي كان عندهم في ذلك من عهده إليهم كان وقفًا على موصوفٍ بصفاتٍ، يحتاج إلى إدراكها بالاستنباط والاجتهاد(12)، فرضوا وسلَّموا له ما فعل من ردِّه الأمر في ذلك إلى النفر، إذ كانوا(13) يومئذٍ أهل الأمانة على الدين وأهله.
          وفيه: الدلالة الواضحة على أنَّ الجماعة الموثوق بأديانهم ونصحتهم للإسلام وأهله إذا عقدوا عقد الخلافة لبعض من هو من أهلها على تشاورٍ منهم واجتهادٍ؛ فليس لغيرهم من المسلمين حلُّ ذلك العقد ممَّن لم يحضر عقدهم وتشاورهم إذ كانوا العاقدين قد أصابوا الحقَّ فيه، وذلك أنَّ عمر أفرد للنظر في الأمر(14) النفر الستَّة ولم يجعل لغيرهم فيما فعلوا اعتراضًا، وسلَّم ذلك من فعله جميعهم، ولم ينكره منهم منكرٌ، ولو كان العقد في ذلك لا يصحُّ إلَّا باجتماع الأمَّة عليه(15)، لكان خليقًا أن يقول له منهم قائل: إنَّ الحقَّ الواجب بالعقد الذي خصَّصت بالقيام به هؤلاء الستَّة لم يخصَّهم به دون سائر الأمَّة، بل الجميع منهم في ذلك شركاء، ولكن القوم لمَّا كان الأمر / عندهم على ما وصفت سلَّموا وانقادوا، ولم يتعرَّض منهم متعرِّضٌ(16)، ولا أنكره منهم منكرٌ.
          وقوله: (بَعدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيلِ) قال صاحب «العين»: الهجوع: النوم بالليل خاصَّةً. يقال: هَجَع يهجَعُ. وقومٌ هُجَّعٌ وهُجوعٌ. وقد تقدَّم تفسير قوله: (ابْهَارَّ اللَّيلُ) في(17) كتاب الصلاة. [خ¦567]


[1] في (ص): ((سمعه)).
[2] في (ص): ((الثلاث)).
[3] في (ص): ((لي سعدًا والزبير)).
[4] زاد في (ص): ((ثم)).
[5] قوله: ((بالصبح)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((أحد)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((وسياسة)).
[8] في (ص): ((من)).
[9] في (ص): ((للمسلمين)).
[10] في (ص): ((في)).
[11] في (ص): ((به)).
[12] في (ص): ((بالاجتهاد والاستنباط)).
[13] في (ص): ((النفر وكانوا)).
[14] في (ص): ((في النظر للأمر)).
[15] قوله: ((عليه)) ليس في (ص).
[16] في (ص): ((ولم يعترض منهم فيه متعرض)).
[17] في (ص): ((تفسير ابهار في)).