شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القضاء على الغائب

          ░28▒ باب: الْقَضَاءِ على الْغَائِبِ.
          فيه: عَائِشَةُ: (أَنَّ هِنْدًا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلعم: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَأَحْتَاجُ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ، قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ)(1). [خ¦7180]
          اختلف العلماء في القضاء على الغائب فأجاز ذلك سوَّارٌ القاضي ومالكٌ والليث والشافعيُّ وأبو ثورٍ وأبو عبيدٍ.
          قال الشافعيُّ: يُقضى بذلك في كلِّ شيءٍ. وروى ابن القاسم عن مالكٍ: أنَّه يقضى بذلك في الدين ولا يُقضى به في أرضٍ ولا عَقَّارٍ، وفي كلِّ شيءٍ كانت له فيه حججٌ إلَّا أن تكون غيبة المدعى عليه طويلةً.
          قال أصبغ: مثل الغدوة من الأندلس ومكَّة من إفريقية وشبه ذلك، وأرى أن يحكم عليه إذا كانت غيبة انقطاعٍ.
          قال مالكٌ: وكذلك إن غاب بعد ما توجَّه عليه القضاء قُضي عليه. قال ابن حبيبٍ: عرضت قول ابن القاسم عن مالكٍ على ابن الماجشون فأنكر أن يكون مالكٌ قاله، وقال: أمَّا علماؤنا وحكَّامنا بالمدينة فالعمل عندهم على الحكم على الغائب في جميع الأشياء.
          وقالت طائفةٌ: لا يُقضى على الغائب. رُوي ذلك عن شريحٍ والنخعيِّ والقاسم وعمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة: لا يقضى على الغائب ولا من هرب عن الحكم بعد إقامة البيِّنة، ولا على من استتر في البلد، ولكنَّه يأتي من عند القاضي من ينادي على بابه ثلاثة أيَّامٍ فإن لم يحضر أنفذ عليه القضاء.
          واحتجَّ الكوفيُّون بالإجماع أنَّه لو كان حاضرًا لم يسمع بيَّنة المدَّعي حتَّى يسأل المدَّعى عليه، فإذا غاب فأحرى أن لا يسمع. قالوا: ولو جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور عند الحاكم مستحقًّا عليه، وقد ثبت أنَّ الحضور مستحقٌّ عليه؛ لقوله تعالى: / {وَإِذَا دُعُوا إلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ}[النور:48]فذمَّهم على الإعراض عن الحكم وترك الحضور، فلولا أنَّ ذلك واجبٌ عليهم لم يلحقهم الذمُّ.
          قالوا: وروي عن عليٍّ حين بعثه النبيُّ صلعم إلى اليمن قال له: ((لا تقض لأحدٍ الخصمين حتَّى تسمع من الآخر))، وقد أمر النبيُّ صلعم بالمساواة بين الخصمين في المجلس، واللحظ واللفظ. والحكم على الغائب يمنع من هذا كلِّه. قال ابن القصَّار: واحتجَّ(2) الذين أجازوا القضاء على الغائب بحديث هندٍ وأنَّ النبيَّ ◙ قضى لها على زوجها بالأخذ من ماله وهو غائبٌ. فإن قيل: حكم من غير أن قامت البيِّنة بالزوجيَّة وثبوت الحقِّ عليه.
          قيل: ليس يكون الحكم إلَّا بعد إقامة البيِّنة، وهذا معلومٌ لم يحتج إلى نقله. وقال الطبريُّ: لم يسألها النبيُّ صلعم البيِّنة لعلمه بصحَّة دعواها. وقال(3) ابن المنذر: وإنَّما حكم عليه وهو غائبٌ لمَّا علم ما يجب لها عليه، فحكم بذلك عليه ولم ينتظر حضوره، ولعلَّه لو حضر أدلى بحجَّةٍ فلم يؤخِّر صلعم الحكم بذلك وأمضاه عليه وهو غائبٌ.
          وقد تناقض الكوفيُّون في ذلك فقالوا: لو ادَّعى رجلٌ عند حاكمٍ أنَّ له على غائبٍ حقًّا وجاء برجلٍ فقال: إنَّه كفيله واعترف له الرجل أنَّه كفيله إلَّا أنَّه قال: لا شيء له عليه. فقال أبو حنيفة: يحكم على الغائب ويأخذ الحقَّ من الكفيل، وكذلك إذا قامت امرأة الغائب وطلبت النفقة(4) من مال زوجها، فإنَّه يحكم لها عليه بالنفقة عندهم.
          قال ابن المنذر: ومن تناقضهم(5) أنَّهم يقضون للمرأة والوالدين والولد على الذي عنده المال الغائب إذا أقرَّ به، ولا يقضون للأخ والأخت ولا لذي رحمٍ محرَّمٍ، ووجوب نفقات هؤلاء عندهم كوجوب نفقات الآباء والأبناء والزوجة، ولو ادُّعي على جماعةٍ غُيَّبٍ دعوى مثل أن يقول: قتلوا عبدي. وحضر منهم(6) واحدٌ حُكم عليه وعلى الغُيَّب، فقد أجازوا الحكم على الغائب.


[1] قوله: ((فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ هِنْدًا.... وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ)) ليس في (ص). وزاد في (ص): ((وحديث هند)).
[2] في (ص): ((ويحتج)).
[3] في (ص): ((قال)).
[4] قوله: ((النفقة)) ليس في (ص).
[5] في (ص): ((تناقض)).
[6] قوله: ((منهم)) ليس في (ص).