شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد

          ░35▒ باب: إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ رَدٌّ.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (بَعَثَ النَّبيُّ صلعم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلى بَنِي جَذِيمَةَ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا أَسْلَمْنَا، فَقَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، وَيَدفَعُ إلى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلا يَقْتُلُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلعم فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ مَرَّتَيْنِ). [خ¦7189]
          لم يختلف العلماء أنَّ القاضي إذا قضى بجورٍ أو بخلاف أهل العلم فهو مردودٌ، فإن كان على وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد فإنَّ الإثم ساقطٌ فيه(1)، والضمان لازمٌ في ذلك عند عامَّة أهل العلم، إلَّا أنَّهم اختلفوا في ضمان ذلك على ما يأتي بيانه.
          ووجه موافقة الحديث للترجمة هو قوله صلعم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيكَ ممَّا صَنَعَ خَالِدٌ) يدلُّ تبرُّؤه ◙ من قتل خالدٍ للذين قالوا: (صَبَأنَا) أنَّ قتله لهم حكمٌ منه بغير الحقِّ؛ لأنَّ الله تعالى يعلم الألسنة كلَّها ويقبل الإيمان من جميع أهل الملل بألسنتهم، لكن عذَره النبيُّ صلعم بالتأويل؛ إذ كلُّ متأوِّلٍ فلا عقوبة عليه ولا إثم.
          واختلفوا في ضمان خطأ الحاكم، فقالت طائفةٌ: إذا أخطأ الحاكم في حكمه في قتلٍ أو جراحٍ فدية ذلك في بيت المال. هذا قول الثوريِّ وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق. وقالت طائفةٌ: هو على عاقلة الإمام والحاكم. وهذا قول الأوزاعيِّ وأبي يوسف ومحمَّدٍ والشافعيِّ، وليس فيها جوابٌ لمالكٍ. واختلف أصحابه فيها فقال ابن القاسم كقول الأوزاعيِّ: الدية على عاقلة الحاكم. وقال في الشاهدين إذا شهد في دينٍ أو عتقٍ أو طلاقٍ أو حدٍّ من الحدود، أرى(2) أن يضمنا الدين، ويكون عليهما قيمة العبد في العتق وقصاص العقل في أموالهما. وهو قول أشهب في الشاهدين. وقال: الأموال مضمونةٌ بالخطأ كما هي بالعمد، وليست كالدماء. وهو قول أصبغ. وقال ابن الماجِشون: ليس على الحاكم شيءٌ من الدية في ماله ولا على عاقلته ولا على(3) بيت مال المسلمين، وكذلك قال في الشاهدين إذا رجعا عن شهادتهما وادَّعيا الغلط أنَّه لا غرم عليهما. وهو قول محمَّد بن مسلمة.
          وذكر ابن حبيبٍ أن قول ابن الماجِشون هو قول المغيرة وابن دينارٍ وابن أبي حازمٍ وغيرهم.
          وحجَّة من لم يوجب الدية أنَّه لم يرو في الحديث أنَّ النبيَّ صلعم أغرمه الدية ولا غرمها عنه. وقوله صلعم: ((إذا اجتهد الحاكم(4) فأخطأ فله أجرٌ)). ولا يجوز أن يؤجر إلَّا على ما هو بفعله مطيعٌ، فإذا كان مطيعًا فما صدر عنه من تلف نفسٍ أو مالٍ فلا ضمان عليه، وهذا اختيار إسماعيل بن إسحاق.
          وحجَّة الذين أوجبوا الضمان والدية الإجماع على أنَّ الأموال مضمونةٌ بالخطأ كما هو بالعمد، ولا تسقط الدية في ذلك من أجل أنَّها لم يذكر في الحديث وجوبها، كما لم تسقط في دية الناقتين عن حمزة حين جبَّ أسنمتهما وبقر خواصرهما، وإن كان لم يذكر ذلك في الحديث.
          وروي عن عثمان أنَّه جعل عقل المرأة التي أمر برجمها على عاقلته، وروي أنَّ امرأةً ذُكِرت عند عمر بالزنا فبعث إليها ففزعت فألقت ما في بطنها فاستشار الصحابة في ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوفٍ وغيره: إنَّما أنت / مؤدِّبٌ ولا شيء عليك. فقال لعليٍّ: ما تقول؟ فقال: إن كان اجتهدوا فقد أخطأوا، عليك الدية. قال عمر: عزمت عليك لتقسمنَّها على قومك. فأوجب عليٌّ بحضرة الصحابة الدية والتزمها(5) عمر، وضربها على عاقلته، والمرأة وإن كانت أسقطت من الفزع فهو من جهته. وليس في قوله صلعم: ((إذا اجتهد الحاكم(6) فأخطأ))، دليلٌ على إسقاط الضمان في ذلك، وإنَّما فيه سقوط الإثم عن المجتهد وأنَّه مأجورٌ إن لم يتعمَّد الخطأ، ولا يفهم من الحديث زوال الضمان.


[1] في (ص): ((عنه)).
[2] في (ز): ((أي)) والمثبت من (ص).
[3] في (ص): ((في)).
[4] في (ص): ((أحدكم)).
[5] في (ص): ((الصحابة وألزمها)).
[6] في (ص): ((الإمام)).