شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب يستحب للكاتب أن يكون أمينًا عاقلًا

          ░37▒ باب: يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَاقِلًا.
          فيه: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ ِمَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ في الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ صلعم؟! فَقَالَ(1) عُمَرُ: هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي في ذَلِكَ / حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ، وَرَجعتُ في ذَلِكَ إلى الذي(2) رَأَه عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ صلعم، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ وَاجْمَعْهُ، قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ صلعم؟!، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَحثُّ مُرَاجَعَتِي حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَرَأَيْتُ في ذَلِكَ الذي رَأَيَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، فَوَجَدْتُ آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}[التوبة:128]إلى آخِرِهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، أَوْ أبي خُزَيْمَةَ، فَأَلْحَقْتُهَا في سُورَتِهَا، وَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أبي بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ ابنَةِ عُمَرَ. [خ¦7191]
          قَالَ أبوعُبَدِ اللهِ البخاريُّ: اللِّخَافُ: الْخَزَفَ.
          قال المُهَلَّب: هذا يدلُّ أنَّ العقل أصل الخلال المحمودة كالأمانة والكفاية في عظيم الأمور؛ لأنَّه لم يصف زيدًا بأكثر من العقل، وجعله سببًا لائتمانه ورفع التُّهمة عنه؛ لقوله: (إِنَّكَ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُكَ).
          وفيه: دليلٌ على اتِّخاذ الكاتب للسلاطين والحكَّام، وأنَّه ينبغي أن يكون الكاتب عاقلًا فطنًا مقبول الشهادة، وهذا كقول كافَّة(3) الفقهاء. وقال الشافعيُّ(4): ينبغي لكاتب القاضي أن يكون عاقلًا لئلَّا يخدع ويحرص على أن يكون فقيهًا لئلَّا يؤتى من جهالةٍ، ويكون بعيدًا من الطمع نزهًا. وفيه: أنَّ من سبقت له معرفةٌ بالأمر فإنَّه أولى بالولاية، وأحقُّ بها ممَّن لا سابقة له في ذلك ولا معرفة.
          وفيه: جواز مراجعة الكاتب للسلطان في الرأي ومشاركته له(5) فيه.
          قال أبو بكر بن الطيِّب: إن قال قائلٌ من الرافضة: كيف جاز لأبي بكر جمع القرآن ولم يجمعه النبيُّ صلعم؟
          قيل: يجوز أن يفعل الفاعل ما لم يفعله النبيُّ صلعم إذا كان في ذلك مصلحةٌ في وقته واحتياطٌ(6) للدين، وليس في أدلَّة الكتاب والسنَّة ما يدلُّ على فساد جمع القرآن بين لوحين وتحصينه، وجمع هممهم على تأمُّله، وتسهيل الانتساخ منه والرجوع إليه، والغنى به عن تطلُّب القرآن من الرقاع والعسب وغير ذلك ممَّا لا يؤمن عليه الضياع، فوجب أن يكون أبو بكر مصيبًا، وأنَّ ذلك من أعظم فضائله وأشرف مناقبه حين سبق إلى ما لم يسبق إليه أحدٌ من الأمَّة، وبأنَّ اجتهاده في النصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه وجميع المؤمنين، وأنَّه في ذلك متَّبعٍ لله ولرسوله صلعم لإخباره تعالى في كتابه أنَّ القرآن كان مكتوبًا في الصحف الأولى، وأخبر عن تلاوة رسول الله صلعم من الصحف بقوله تعالى: {رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو(7) صُحُفًا مُّطَهَّرَةً. فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}[البينة:2-3]فلم يكن جمع أبي بكر الصدِّيق ☺ بين اللوحين مخالفًا لله ولرسوله؛ لأنَّه لم يجمع ما لم يكن مجموعًا ولم يكتب(8) ما لم يكن مكتوبًا، وقد أمرهم النبيُّ صلعم بكتابته فقال: ((لا تكتبوا عنِّي شيئًا غير القرآن)).
          فألَّف المكتوب وصانه، وأحرزه وجمعه بين لوحين، ولم يغيِّر منه شيئًا، ولا قدَّم منه مؤخَّرًا ولا أخَّر مقدَّمًا، ولا وضع حرفًا ولا آيةً في غير موضعها.
          ودليلٌ آخر، وذلك أنَّ الله تعالى ضمن لرسوله صلعم ولسائر الخلق جمع القرآن وحفظه فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:16]، وقال تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}[فصلت:42]. فنفى عنه إبطال الزائغين وإلباس الملحدين، ثمَّ أمر الرسولَ صلعم والأمَّةَ بحفظه والعمل به، فوجب أن يكون كلُّ أمرٍ عاد بتحصينه(9) وأدَّى إلى حفظه واجبًا على كافَّة الأمَّة فعله، فإذا قام به البعض فقد أحسن وناب عن باقي الأمَّة.
          وقد روى عبدُ خَيرٍ، عن عليٍّ أنَّه قال: / يرحم الله أبا بكر هو أوَّل من جمع القرآن بين لوحين. وهذا تعظيمٌ منه لشأنه ومدحٌ له، وعليٌّ أعلم من الرافضة بصواب هذا الفعل، فيجب ترك قولهم لقوله.
          وممَّا يدلُّ على صحَّة هذه الرواية عن عليٍّ ابتغاؤه لأجره وإطلاقه للناس كتب المصاحف وحضِّهم عليها وإظهاره(10) تحكيم ما ضمَّ الصدِّيق والجماعة بين لوحين، ولو كان ذلك عنده منكرًا لما أخرج إلى الدعاء إلى من يخالفه مصحفًا تنشره الريح، وإنَّما كان يخرجه من الصحف والعسب واللخاف على وجه ما كان مكتوبًا في زمن النبيِّ صلعم فدلَّ أنَّه مصوبٌ لفعل الصدِّيق والجماعة، وأنَّ(11) ذلك رأيه ودينه، وسيأتي في كتاب فضائل القرآن في باب جمع القرآن بقيَّة(12) الكلام في معاني هذا الحديث إن شاء لله تعالى. [خ¦4986]


[1] في (ص): ((قال)).
[2] في (ص): ((ذلك للذي)).
[3] في (ص): ((قول طائفة)).
[4] قوله: ((الشافعي)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((له)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((واحتياطًا)).
[7] قوله: ((رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُو)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((ولا كتب)).
[9] في (ص): ((لتحصينه)).
[10] في (ص): ((وإظهار)).
[11] في (ص): ((فإن)).
[12] في (ص): ((بقيته)). وقوله: ((الكلام في معاني هذا الحديث إن شاء لله تعالى)) ليس فيها.