شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الاستخلاف

          ░51▒ باب: الاسْتِخْلافِ
          فيه: عَائِشَةُ قَالَتَ: (وَارَأْسَاهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ وَأَدْعُو لَكِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَا ثُكْلاَهْ، وَاللهِ إِنِّي لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، وَلَوْ كَانَ ذَلكَ لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ، ولَقَدْ هَمَمْتُ، أَوْ أَرَدْتُ، أَنْ أُرْسِلَ إلى أبي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُون). [خ¦7217]
          وفيه: ابْنُ عُمَر: قلت لِعُمَرَ: أَلا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللهِ صلعم فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ: رَاغِبٌ ورَاهِبٌ، وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا، لا لي وَلا عَلَيَّ لا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا ومَيِّتًا. [خ¦7218]
          وفيه: أَنَسٌ: أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ على الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّيَ النَّبيُّ صلعم، فَتَشَهَّدَ وَأَبُو بَكْرٍ صَامِتٌ(1) لا يَتَكَلَّمُ، قَالَ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللهِ صلعم حَتَّى يَدْبُرَنَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ، فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ اللهَ ╡ قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ بما(2) هَدَى اللهُ مُحَمَّدًا، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلعم ثَانِيَ اثْنَيْنِ، وَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ، فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ على الْمِنْبَرِ.
          قَالَ الزُّهرِيُّ عَنْ أَنَسٍ: سَمِعْتُ عُمَرَ قَالَ: لأبِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ: اصْعَدِ الْمِنْبَرَ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَامَّةً. [خ¦7219]
          وفيه(3): جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: (أَتَتِ النَّبيَّ صلعم امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ في شَيْءٍ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ(4) وَلَمْ أَجِدْكَ، كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ). [خ¦7220]
          وفيه: طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ: أَنَّ أَبِا بَكْرٍ قَالَ لِوَفْدِ بُزَاخَةَ: تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الإبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ. [خ¦7221]
          قال المُهَلَّب: فيه دليلٌ قاطعٌ في خلافة أبي بكرٍ وهو قوله: (لَقَدْ هَمَمْتُ، أَنْ أُرْسِلَ إلى أبي بَكْرٍ وَابْنِهِ) يعني: فأعهد إلى أبي بكر، (ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللهُ): يأبى الله غير أبي بكر (وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ)، غير أبي بكر بحضرته. وشكَّ المحدِث بأيِّ اللفظين بدأ النبيُّ صلعم ولم يشكَّ في صحَّة المعنى، وهذا ممَّا وعد النبيُّ صلعم(5)، فكان كما وعد، وذلك من أعلام نبوَّته / صلعم وقد روى مسلمٌ هذا الحديث في كتابه فقال فيه: ((يأبى الله ويدفع المؤمنون إلَّا أبا بكرٍ)).
          فإن قال قائلٌ: فإذا ثبت أنَّ النبيَّ صلعم لم يستخلف أحدًا، فما معنى ما رواه(6) إسماعيل بن أبي خالدٍ عن قيس بن أبي حازمٍ قال: رأيت عمر وبيده عسيبٌ وهو يُجلِس الناس ويقول: اسمعوا لخليفة رسول الله. وهذا خلافٌ لحديث ابن عمر.
          فالجواب: أنَّه ليس في أحد الخبرين(7) خلافٌ للآخر، ومعنى قول عمر: إن أترك فقد ترك رسول الله صلعم، يعني ترك التصريح والإعلان بتعيين شخصٍ ما وعقد الأمر له، وأمَّا قول عمر: اسمعوا لخليفة رسول الله صلعم، فمعناه أنَّ رسول الله صلعم استخلف عليهم أبا بكرٍ(8) بالأدلَّة التي نصبها لأمَّته أنَّه الخليفة من بعده، فكان أبو بكرٍ خليفة رسول الله لقيام الدليل على استخلافه، ولما كان قد أعلمه الله ╡ أنَّه لا يكون غيره، ولذلك قال: (يَأبَى اللهُ وَيَدفَعُ المؤمِنُونَ).
          ومن أبين الدليل في استخلاف أبي بكرٍ قول المرأة للنبيِّ صلعم: إن لم أجدك حيًّا إلى من الملجأ بالحكم؟ فقال صلعم: ((ائت أبا بكرٍ)) ولم يكن لبشرٍ من علم الغيب ما كان للنبيِّ صلعم في ذلك، فرأى أنَّ الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين، وإن لم يوقف الأمر على رجلٍ بعينه؛ لكن جعله لمعيَّنين لا يخرج عنهم إلى سواهم فكان نوعًا من أنواع الاستخلاف والعقد، وإنَّما فعل هذا عمر وتوسَّط حالةً بين حالتين خشية الفتنة بعده، كما خشيت بعد النبيِّ صلعم وقت قول الأنصار ما قالوا، فلذلك جعل عمر الأمر معقودًا موقوفًا على الستَّة؛ لئلَّا يترك الاقتداء بالنبيِّ صلعم في ترك الأمر إلى الشورى مع ما قام من الدليل على فضل أبي بكرٍ فأخذ(9) من فعل أبي بكرٍ طرفًا آخر وهو العقد لأحد الستَّة ليجمع لنفسه فضل السُّنَّتين.
          وأمَّا قول عمر حين أثنوا عليه: (رَاغِبٌ ورَاهِبٌ، وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا)، فيحتمل معنيين: أحدهما: راغبٌ بثنائه(10) في حسن رأيي وتقريبي له، وراهبٌ من إظهار ما بنفسه من كراهته(11). والثاني قوله: (راغبٌ) يعني: أنَّ الناس في هذا الأمر راغبٌ فيه، يعني في الخلافة، وراهبٌ منها، فإن ولَّيت الراغب فيها خشيت ألَّا يعان عليها للحديث، وإن ولَّيت الراهب منها خشيت ألَّا يقوم بها. وفي هذا كلِّه دليلٌ على جواز عقد الخلافة من الإمام لغيره بعده، وأنَّ أمره في ذلك على عامَّة المسلمين جائزٌ. قال بعض الشافعيَّة: فإن قال قائلٌ: أجاز(12) للإمام تولية العهد، و الإمام(13) إنَّما يملك النظر في(14) المسلمين حياته وتزول عنه بوفاته، وتولية العهد استخلافٌ بعد وفاته في وقت زوال أمره وارتفاع نظره، وهو لا يملك(15) ذلك الوقت ما يجوز عليه توليته(16) أو تنفذ فيه وصيَّته.
          قيل: إنَّما جاز ذلك لأمورٍ منها إجماع الأمَّة من الصحابة ومن بعدهم على استخلاف أبي بكرٍ عمرَ ☻ على الأمَّة بعده، وأمضت الصحابة ذلك منه على أنفسها، وجعل عمر الأمر بعده في ستَّةٍ، فألزم ذلك من حكمه، وعمل فيه على رأيه وعقده، ألا ترى رضا عليٍّ بالدخول في الشورى مع الخمسة وجوابه للعبَّاس بن عبد المطَّلب حين عاتبه على ذلك بأن قال: الشورى كان أمرًا عظيمًا من أمور المسلمين، فلم أر أن أُخرِج نفسي منه. ولو كان باطلًا عنده لوجب عليه أن يُخرِج نفسه منه ولما جاز له الدخول(17) معهم فيه.
          ومنها أنَّ المسلمين إنَّما يقيمون الإمام إذا لم يكن لهم(18) لحاجتهم إليه وضرورتهم إلى إقامته ليكفيهم مؤونة النظر في مصالحهم، فلمَّا لم يكن لهم مع رأيه(19) وأمره فيما يتعلق بمصالحهم رأيٌ ولا نظرٌ، فكذلك في إقامة الإمام بعده؛ لأنَّه من الأمور المتعلِّقة بكافَّتهم وصلاح عامَّتهم، وقطع التنازع والاختلاف بينهم، ولمثل هذا المعنى أرادوه، فكان رأيه في ذلك ماضيًا عليهم، وجرى مجرى الأب في توليته على ابنه الصغير بعد وفاته عند عدم الأب.
          وأمَّا قول عمر في خطبته: (كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ النَّبِيُّ صلعم حَتَّى يَدْبُرَنَا) يعني: حتَّى يكون آخرنا. فإنَّما قال ذلك اعتذارًا ممَّا كان خطب به(20) قبل ذلك يوم وفاته صلعم حين قال: إنَّ محمَّدًا لم يمت وإنَّه / سيرجع ويقطع أيدي رجالٍ وأرجلهم، حتَّى قام أبو بكرٍ ☺ فقال: من كان يعبد محمَّدًا فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لم يمت، وتلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية[آل عِمْرَان:144]. وقد ذكر ابن إسحاق عن ابن عبَّاسٍ، عن عمر أنَّه قال: إنَّما حملني على مقالتي حين مات النبيُّ صلعم قوله ╡: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء على النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[البقرة:143]فوالله إن كنت لأظنُّ أنَّ رسول الله صلعم سيبقى في أمَّته حتَّى يشهد عليها بآخر أعمالها.
          وبان في هذه(21) الرزيَّة الشنيعة والمصيبة الجليلة النازلة بالأمَّة من موت نبيِّها صلعم من ثبات نفس الصدِّيق ☺، ووفور عقله ومكانته من الإسلام ما لا مطمع فيه لأحدٍ غيره. وقال سعيد بن زيدٍ(22): بايعوا الصدِّيق يوم مات النبيُّ صلعم، كرهوا بقاء بعض يومٍ وليسوا في جماعةٍ. وقد(23) ذكر ابن إسحاق عن ابن شهابٍ، عن عروة بن الزبير أنَّ الناس بكوا على رسول الله صلعم حين توفَّاه الله وقالوا: لوددنا أنَّا متنا قبله، إنَّا نخشى أن نفتن بعده. وقال(24) معن بن عديٍّ العجلانيُّ: والله ما أحبُّ أنِّي متُّ قبله حتَّى أصدِّقه ميِّتًا كما صدَّقته حيًّا. فقتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكرٍ.
          وقوله: (يُدْبِرَنَا) قال الخليل: دَبَرت الشيء دَبْرًا: تبعته(25)، وعلى هذا قرأ من قرأ: ((وَاللَّيلِ إِذَا دَبَرَ))، يعني إذا تبع النهار. ودبرني فلانٌ: خلفني(26).
          وأمَّا وفد بُزَاخة فإنَّهم ارتدُّوا ثمَّ تابوا. فأوفدوا رسلهم إلى أبي بكرٍ يعتذرون إليه فأحبَّ أبو بكرٍ أن لا يقضي فيهم إلَّا بعد المشاورة في أمرهم فقال لهم: ارجعوا واتَّبعوا أذناب الإبل في الصحارى حتَّى يرى المهاجرون وخليفة النبيِّ صلعم ما يريهم الله في مشاورتهم أمرًا يعذرونكم فيه(27)، وذكر يعقوب بن محمَّدٍ الزهريُّ قال: حدَّثني إبراهيم بن سعدٍ عن سفيان الثوريِّ، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ قال: قدم(28) وفد أهل بزاخة وهم من طيِّءٍ على أبي بكرٍ يسألونه الصلح فقال(29) أبو بكرٍ: اختاروا إمَّا الحرب المجلية وإمَّا السلم المخزية. فقالوا: قد عرفنا الحرب المجلية فما السلم المخزية؟ قال: تنزع منكم الكراع والحلقة وتودون قتلانا، وقتلاكم في النار ونغنم(30) ما أصبنا منكم، وتردُّون(31) إلينا ما أصبتم منا، وتتركون أقوامًا تتَّبعون أذناب الإبل حتَّى يري الله خليفة نبيِّه والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به، فخطب أبو بكرٍ الناس فذكر أنَّه قال وقالوا. فقال عمر: قد رأيت رأيًا وسنشير عليك، أمَّا ما ذكرت من أن تنزع منهم الكراع والحلقة فنعم ما رأيت، وأمَّا ما ذكرت(32) من أن يودوا قتلانا وقتلاهم في النار؛ فإنَّ قتلانا قتلت على أمر الله فليس لها دياتٌ. فتتابع الناس على قول عمر.


[1] قوله: ((صامتٌ)) زيادة من (ص).
[2] قوله: ((بما)) ليس في (ص)
[3] في (ص): ((فيه)).
[4] في (ص): ((جئتك)).
[5] زاد في (ص): ((به)).
[6] في (ص): ((رواية)).
[7] في (ص): ((الحديثين)).
[8] في (ص): ((أبا بكر عليهم)).
[9] في (ص): ((وأخذ)).
[10] في (ص):((في ثنائه)).
[11] في (ص): ((كراهية)).
[12] في (ص): ((لم جاز)).
[13] قوله: ((الإمام))ليس في (ص).
[14] زاد في (ص): ((أمور)).
[15] زاد في (ص):((في)).
[16] في (ص): ((توليه)).
[17] في (ص): ((أن يدخل)).
[18] في (ص): ((بهم)).
[19] في (ص): ((لم يكن بد لهم من رأيه)).
[20] في (ص): ((كان خطبه)).
[21] في (ص): ((وبان بهذه)).
[22] قوله: ((بن زيد)) ليس في (ص).
[23] قوله: ((وقد))ليس في (ص).
[24] في (ص): ((فقال)).
[25] في (ص): ((أتبعته)).
[26] في (ز): ((خالفني)) والمثبت من (ص).
[27] في (ص): ((به)).
[28] في (ص): ((قدمت)).
[29] زاد في (ص): ((لهم)).
[30] في (ص): ((ونقيم)).
[31] في (ص): ((وتؤدون)).
[32] في (ص): ((ما رأيت)).