شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه

          ░29▒ باب: مَنْ قُضِيَ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلا يَأْخُذْهُ.
          فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لا يُحِلُّ حَرَامًا وَلا يُحَرِّمُ حَلالًا.
          فيه: أُمُّ سَلَمَةَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا). [خ¦7181]
          وفيه(1): عَائِشَةُ قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أبي، وُلِدَ على فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إلى رَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أبي وُلِدَ على فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِي مِنْهُ، لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللهَ ╡). [خ¦7182]
          أجمع الفقهاء على أنَّ حكم الحاكم لا يخرج الأمر عمَّا هو عليه في الباطن، وإنَّما ينفذ حكمه في الظاهر الذي تُعبِّد به، ولا يحلُّ للمقضيِّ له مال المقضيِّ عليه إذا ادَّعى عليه ما ليس عنده ووقع الحكم بشاهدي زورٍ، فالعلماء مجمعون أنَّ ذلك في الفروج والأموال سواءٌ؛ لأنَّها كلَّها حقوقٌ لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إلى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ(2)}[البقرة:188]وهو قول أبي يوسف.
          وشذَّ أبو حنيفة ومحمَّدٌ فقالا: ما كان من تمليك مالٍ فهو على حكم الباطن كما قال رسول الله صلعم: (فَمَن قَضَيتُ لَهُ بِشَيءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأخُذْهُ، / فإِنَّما أَقطَعُ لَهُ قِطعَةً مِنَ النَّار) وما كان من حلِّ عصمة النكاح أو عقدها غير داخل في النهي، فلو تعمَّد شاهدا زورٍ الشهادة على امرأةٍ أنَّها قد رضيت بنكاح رجلٍ، وقضى الحاكم عليها بذلك لزمها النكاح ولم يكن لها الامتناع. ولو(3) تعمَّد رجلان الشهادة بالزور على رجلٍ أنَّه طلَّق امرأته، فقبل القاضي(4) شهادتهما لعدالتهما عنده وفرَّق بين الرجل والمرأة ثمَّ اعتدَّت(5) المرأة جاز لأحد الشاهدين أن يتزوَّجها وهو عالمٌ أنَّه كان كاذبًا في شهادته، لأنَّه لمَّا حلَّت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره سواءٌ؛ لأنَّ قضاء القاضي قطع عصمتها وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعًا، ولولا ذلك ما حلَّت للأزواج.
          واحتجَّا بحكم اللِّعان وقالا(6): معلومٌ أنَّ الزوجة إنَّما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب الذي لو علم الحاكم كذبها فيه لحدَّها وما فرَّق بينهما، فلم يدخل هذا في عموم قوله صلعم: (وَقَضَيتُ لَهُ بِشَيءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأخُذْهُ).
          واحتجَّ أصحاب مالكٍ والشافعيُّ وغيرهم بحديث أمِّ سلمة وعائشة وقالوا(7): قوله صلعم: (فَمَنْ(8) قَضَيتُ لَهُ بِحَقِّ مُسلِمٍ فَإِنَّما هِيَ قِطعَةٌ مِنَ النَارِ) بيانٌ واضحٌ أنَّ حكمه بما ليس للمحكوم له لا يجوز له أخذه، وأنَّه حرامٌ عليه في الباطن. وقوله صلعم: (فَمَنْ قَضَيتُ لَهُ بِحَقِّ مُسلِمٍ) يشتمل على كلِّ حقٍّ، فمن فرَّق بين بعض الحقوق فعليه الدليل، ومثل هذا حكمه صلعم في ابن(9) وليدة زَمْعَة أنَّه لزمعة من أجل الفراش الظاهر ولم يلحقه بعتبة، ثمَّ لمَّا رأى صلعم شبهًا بعتبة قال لسودة زوجته: (احْتَجِبِي مِنهُ)؛ لجواز أن يكون من زنا.
          فلو كان حكمه يقع ظاهرًا وباطنًا لم يأمر صلعم زوجته سودة بالاحتجاب منه مع حكمه بأنَّه أخوها.
          ومن طريق الاعتبار أنَّا قد اتَّفقا على أنَّه لو ادَّعى إنسان على حرَّةٍ أنَّها أمته وأقام شاهدي زورٍ لم تكن أمته في الباطن من أجل حكم الحاكم، فكذلك في الفُروج كلِّها، وكذلك لو ادَّعى على ابنته أو أخته أنَّها زوجته وأقام شاهدي زورٍ، وحكم الحاكم بالزوجيَّة، فإنَّ أبا حنيفة يقول: لا تكون زوجته(10). وفرَّق بين الحرمة بالنسب وبين زوجة غيره ولا فرق بينهما؛ لأنَّه لمَّا كان حكم الحاكم لا يبيح المحرَّمة بالنسب، فكذلك لا يبيح المحرَّمة بنكاحٍ غيره.


[1] في (ص): ((فيه)).
[2] قوله: (({بالإثم وأنتم تعلمون})) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((فلو)).
[4] في (ص): ((الحاكم)).
[5] في (ص): ((والمرأة واعتدت)).
[6] في (ص): ((وقالوا)).
[7] في (ص): ((فقالوا)).
[8] قوله: ((صلعم: فمن)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((لابن)).
[10] في (ص): ((زوجة)).