شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء

          ░21▒ باب: الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ في وِلايَتِهِ الْقَضَاءَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ.
          وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ، قَالَ: ائْتِ الأمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ.
          وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا على حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ، فَقَالَ: شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ عُمَرُ ☺: لَوْلا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ في كِتَابِ اللهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِي.
          وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبيِّ صلعم بِالزِّنَا أَرْبَعًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبيَّ صلعم أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ.
          وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ، وَقَالَ: الْحَكَمُ أَرْبَعًا.
          فيه: أَبُو قَتَادَةَ: (قَالَ النَّبيُّ صلعم يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ على قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُمْتُ لألْتَمِسَ بَيِّنَةً على قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ(1) أَحَدًا يَشْهَدُ لي فَجَلَسْتُ، ثُمَّ بَدَا لي، فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ لرَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الذي يَذْكُرُ عِنْدِي، قَالَ: فَأَرْضِهِ مِنْهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ☺: كَلَّا، لَا يُعطِيهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَعَلِمَ رَسُولُ اللهِ صلعم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ). [خ¦7170]
          قَالَ عَبْدُ اللهِ عَنِ اللَّيْثِ: فَقَامَ رسول الله صلعم فَأَدَّاهُ إلى مَنْ لَهُ بَيِّنَةٍ.
          وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْحَاكِمُ لا يَقْضِي بِعِلْمِهِ شَهِدَ بِذَلِكَ في وِلايَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لآخَرَ بِحَقٍّ في مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ لا يَقْضِي عَلَيْهِ في قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ شَاهِدَيْنِ(2) فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ.
          وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ في مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ وَمَا كَانَ في غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ، / وقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ يَقْضِي بِهِ؛ لأنَّهُ مُؤْتَمَنٌ وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنَ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنَ الشَّهَادَةِ.
          وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْضِي بِعِلْمِهِ في الأمْوَالِ وَلا يَقْضِي في غَيْرِهَا.
          وَقَالَ الْقَاسِمُ: لا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِيَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَكِنْ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيقَاعٌ لَهُمْ في الظُّنُونِ، وَقَدْ كَرِهَ النَّبيُّ صلعم الظَّنَّ فَقَالَ: إِنَّها صَفِيَّةُ.
          وفيه(3): عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَلَمَّا رَجَعَتِ انْطَلَقَ مَعَهَا فَمَرَّ بِهِ رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَعَاهُمَا فَقَالَ: إِنَّهَا صَفِيَّةُ، قَالا(4): سُبْحَانَ اللهِ، قَالَ(5): إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ). [خ¦7171]
          قال المُهَلَّب: معنى الترجمة أنَّ الشهادة التي تكون عند القاضي في ولايته القضاء أو قبل ذلك لا يجوز له أن يقضي بها وحده، وله أن يشهد بها عند غيره من الحكَّام كما قال مالكٌ، ولذلك ذكر قول شريحٍ وهو قول عُمَر بن الخطَّاب وعبد الرحمن بن عوفٍ أنَّ شهادته كشهادة رجلٍ من المسلمين، واستشهد على ذلك بقول عمر أنَّه كانت عنده شهادةٌ في آية الرجم أنَّها من القرآن فلم يجز له أن يلحقها بنصِّ المصحف المقطوع على صحَّته بشهادته وحدَه، وقد أفصح عمر بالعلَّة في ذلك فقال: (لَوْلاَ أَنْ يُقَالَ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللهِ، لَكَتَبْتُها(6)) وعرَّفك أنَّ ذلك من باب قطع الذرائع؛ لئلَّا يجد حكَّام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم لمن أحبُّوا له الحكم أنَّه على حقٍّ.
          وأمَّا ما ذُكر من إقرار ماعزٍ عند النبيِّ صلعم وحكم النبيِّ صلعم عليه(7) بالرجم دون أن يشهد من حضره، وكذلك إعطاؤه ◙ السلب لأبي قَتادة بإقرار الرجل الذي كان عنده السلب وحده مع ما انضاف إلى ذلك من علم النبيِّ صلعم ألا ترى قوله في الحديث: (فَعَلِمَ النَّبيُّ صلعم) يعني: علم أنَّ أبا قَتادة هو قاتل القتيل، فهو حجَّةٌ في قضاء القاضي بعلمه، وهو خلاف ما ذكره البخاريُّ في أوَّل الباب عن شريحٍ وعمر وعبد الرحمن بن عوفٍ، فأورد البخاريُّ في هذا الباب اختلاف أهل العلم، وحجَّة الفريقين من الحديث بإقرار ماعزٍ، وحديث أبي قَتادة حجَّةٌ لأهل العراق في أن يقضي القاضي بعلمه وشهادته.
          وحديث صفيَّة، وحديث عمر في آية الرجم حجَّةٌ لأهل الحجاز أنَّ القاضي لا يقضي بعلمه خوف التهمة؛ لأنَّ النبيَّ صلعم كان أبعد الخلق من التُّهمة ولم يقنع بذلك حتَى قال: (إِنَّهَا صَفِيَّةُ) فغيره ممَّن ليس بمعصومٍ أولى بخوف التُّهمة، وإنَّما فعل ذلك ◙ ليسنَّ لأمَّته البعد من مواضع التُّهم، وقد تقدَّم في باب رأي القاضي أن يقضي بعلمه قبل هذا اختلاف العلماء في ذلك(8). [خ¦7161]
          وقد ردَّ بعض الناس حجَّة أهل العراق بحديث ماعزٍ وأبي قَتادة فقال: ليس فيهما أنَّ النبيَّ صلعم قضى بعلمه؛ لأنَّ ماعزًا إنَّما كان إقراره عند النبيِّ صلعم بحضرة الصحابة؛ إذ معلومٌ أنَّه كان لا يقعد صلعم وحده، وقصَّة ماعزٍ مشهورةٌ رواها عن النبيِّ صلعم أبو هريرة وابن عبَّاسٍ وجابرٌ وجماعةٌ، فلم يحتجِ النبيُّ صلعم أن يشهدهم على إقراره بالزنا لسماعهم ذلك منه، وكذلك حديث أبي قَتادة، والصحيح فيه رواية عبد الله بن صالحٍ عن الليث: ((فَقَامَ النَّبيُّ صلعم فَأدَّاه إِلَى مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ)) ورواية قتيبة عن الليث: (فَعَلِمَ النَّبيُّ صلعم) وهمٌ منه، فيشبه أن تتصحَّف: (فَعَلِمَ النَّبيُّ صلعم) مع قوله: (فَقَامَ) فلم يقض فيه بعلمه، ويدلُّ على ذلك أنَّ منادي رسول الله صلعم إنَّما نادى يوم حنينٍ: ((من قتل قتيلًا له عليه بيِّنةٌ فله سلبه))، فشرط أخذ السلب لمن أقام البيِّنة، وأوَّل القصَّة لا يخالف آخرها، وشهادة الرجل الذي كان عنده سلب(9) أبي قَتادة شهادةٌ قاطعةٌ لأبي قَتادة، لو لم تكن في مغنمٍ، وكان من الحقوق التي ليس للنبيِّ صلعم أن يعطي منها أحدًا إلَّا باستحقاق البيِّنة(10)، والمغانم مخالفةٌ لذلك؛ لأنَّ النبيَّ صلعم له أن يعطي منها من شاء ويمنع منها من شاء؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}[الحشر:7]فلا حجَّة فيه لأهل العراق.


[1] في (ص): ((أجد)).
[2] في (ص): ((بشاهدين)).
[3] في (ص): ((فيه)).
[4] في (ص): ((فقالا)).
[5] في (ص): ((فقال)).
[6] في (ص): ((لبينتها)).
[7] قوله: ((عليه)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((وقد تقدم في باب رأي القاضي أن يقضي بعلمه قبل هذا اختلاف العلماء في ذلك)) ليس في (ص).
[9] زاد في (ص): ((قتيل)).
[10] في (ز): ((السنة)) والمثبت من (ص).