شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الشهادة على الخط المختوم

          ░15▒ باب: الشَّهَادَةِ على الْخَطِّ والْمَخْتُومِ(1) وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ
          وَمَا يَضِيقُ فِيهِ وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إلى عَامِلِهِ وَالْقَاضِي إِلَى القَاضِي
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلَّا في الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ.
          وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ ☺ إلى عَامِلِهِ في الْحدودِ، وَكَتَبَ(2) عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ في سِنٍّ كُسِرَتْ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِي إلى الْقَاضِي جَائِزٌ إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ.
          وَكَانَ الشَّعبيُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْقَاضِي، وَيُروى(3) عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ، وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الثَّقَفِيُّ: شَهِدْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعلى قَاضِيَ الْبَصْرَةِ وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْن أَنَسٍ، وَبِلالَ بْنَ أبي بُرْدَةَ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الأسْلَمِيَّ، وَعَامِرَ بْنَ عبِيدَةَ وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ، فَإِنْ قَالَ الذِي جِيءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ: إِنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ، فَالْتَمِسِ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ على كِتَابِ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ: ابْنُ أبي لَيْلَى وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللهِ.
          وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُحْرِزٍ: جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ، فَأَقَمْتُ عِليهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لي عِنْدَ فُلانٍ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، فَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَجَازَهُ.
          وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلابَةَ أَنْ يَشْهَدَ على وَصِيَّةٍ(4) حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؛ لأنَّهُ لا يَدْرِي لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا.
          وَقَدْ كَتَبَ النَّبيُّ صلعم إلى أَهْلِ خَيْبَرَ: ((إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا مِنَ الله بِحَرْبٍ(5))).
          وَقَالَ الزُّهرِيُّ في الشَّهَادَةِ على الْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَلا تَشْهَدْ.
          فيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم لمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إلى الرُّومِ، قَالُوا: إِنَّهُمْ لا يَقْرَؤُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ النَّبيُّ صلعم خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إلى وَبِيصِهِ وَنَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ). [خ¦7162]
          اتَّفق(6) جمهور العلماء على أنَّ الشهادة على الخطِّ لا تجوز إذا لم يذكر الشهادة ولم يحفظها. قال الشَّعبيُّ: لا يشهد(7) أبدًا إلَّا على شيءٍ يذكر، فإنَّه من شاء انتقش(8) خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا.
          وممَّن رأى أن لا يشهد على الخطِّ وإن عرفه حتَّى يذكر الشهادة: الكوفيُّون والشافعيُّ وأحمد وأكثر أهل العلم، وقد فعل مثل هذا في أيَّام عثمان ☺ صنعوا مثل خاتمه وكتبوا مثل كتابه في قصَّةٍ مذكورةٍ في مقتل عثمان.
          وأحسن(9) ما يحتجُّ به في هذا الباب بقوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}[يوسف:81]، وقوله: {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[الزخرف:86]، وأجاز مالكٌ الشهادة على الخطِّ، فروى عنه ابن وهبٍ في الرجل يقوم يذكر حقًّا قد مات شهوده ويأتي بشاهدين عدلين يشهدان على كتابة(10) كاتبٍ ذكر الحقَّ، قال: تجوز شهادتهما على كتاب الكاتب. يعني: إذا كان قد كتب شهادته على المطلوب بما كتب عليه في ذكر الحقِّ؛ لأنَّه قد يكتب ذكر الحقَّ من لا يشهد على المذكور(11) عليه.
          قال ابن القاسم: وإن كان / على خطِّ اثنين جاز وكان بمنزلة الشاهدين إذا كان عدلًا مع يمين الطالب، وهو قول ابن القاسم.
          وذكر ابن شعبان عن ابن وهبٍ قال: لا آخذ بقول مالكٍ في الشهادة على معرفة الخطِّ ولا تقبل الشهادة فيه.
          وقال الطحاويُّ: خالف مالكٌ جميع الفقهاء في الشهادة على الخطِّ وعدُّوا قوله شذوذًا؛ إذ الخطُّ قد يشبه الخطَّ، وليست الشهادة على قولٍ منه ولا معاينة فعلٍ.
          وقال محمَّد بن حارثٍ: الشهادة على الخطِّ خطأٌ؛ لأنَّ الرجل قد يكتب شهادته على من لا يعرفه بعينه طمعًا أن لا يحتاج إليه في ذلك(12) وأنَّ غيره يغني عنه، أو لعلَّه يشهد في قريبٍ من وقت الشهادة فيذكر العين، ولقد قال في رجلٍ قال: سمعت فلانًا يقول: رأيت فلانًا قتل فلانًا، أو سمعت فلانًا طلَّق امرأته أو قذفها أنَّه لا يشهد على شهادته(13) إلَّا أن يشهده، فالخطُّ أبعد من هذا وأضعف.
          قال محمَّد بن حارثٍ: وقد قلت لبعض القضاة(14): أتجوز شهادة الموتى؟ فقال: ما هذا الذي تقول؟ فقلت: إنَّكم تجيزون شهادة الرجل بعد موته إذا وجدتم خطَّه في وثيقةٍ. فسكت.
          وقال محمَّد بن عبد الحكم: لا نقضي في دهرنا بالشهادة على الخطِّ؛ لأنَّ الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور، وقد قال مالكٌ: إنَّ الناس تحدث لهم أقضيةٌ على نحو ما أحدثوا من الفجور. وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة على خاتم القاضي، ثمَّ رأى مالكٌ أنَّ ذلك لا يجوز.
          وأمَّا اختلاف الناس في كتب القضاة، فذهب جمهور العلماء إلى أنَّ كتب القضاة إلى القضاة جائزةٌ في الحدود وسائر الحقوق، وذهب الكوفيُّون إلى أنَّها تجوز في كلِّ شيءٍ إلَّا في الحدود، وهو أحد قولي الشافعيِّ، وله مثل قول الجمهور، وحجَّة البخاريِّ على الكوفيِّ من تناقضه في جواز ذلك في قتل الخطأ وأنَّه إنَّما صار مالًا بعد ثبوت القتل فهي حجَّةٌ حسنةٌ.
          وذكر أنَّ عُمَر بن عبد العزيز كتب إلى عمَّاله في الحدود وأحكامه حجَّةٌ(15) ولا سلف لأبي حنيفة في قوله. وذكر البخاريُّ عن جماعةٍ من قضاة التابعين وعلمائهم أنَّهم كانوا يجيزون كتب القضاة إلى القضاة بغير شهودٍ عليها إذا عرف الكتاب والخاتم، وحجَّتهم أنَّ النبيَّ صلعم بعث بكتبه إلى خيبر وإلى الروم، ولم يذكر أنَّ النبيَّ صلعم أشهد عليها. وأجمع فقهاء الأمصار وحكَّامها على فعل سوَّار وابن أبي ليلى، فاتَّفقوا أنَّه لا يجوز كتاب قاضٍ إلى قاضٍ حتَّى يشهد عليه شاهدان لما دخل الناس من الفساد، واستعمال الخطوط ونقوش(16) الخواتيم، فاحتيط لتحصين الدماء والأموال بشاهدين.
          وروى ابن نافعٍ عن مالكٍ قال: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم حتَّى إنَّ القاضي ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه فيجاز له، حتَّى اتَّهم الناس، فصار لا يقبل إلَّا بشاهدين، واختلفوا إذا أشهد القاضي شاهدين على كتابه ولم يقرأ عليهما ولا عرفهما بما فيه فقال مالكٌ: يجوز ذلك ويلزم القاضي المكتوب إليه قبوله بقول الشاهدين: هذا كتابه دفعه(17) إلينا مختومًا.
          وقال أبو حنيفة والشافعيُّ وأبو ثورٍ: إذا لم يقرأه عليهما القاضي لم يجز ولا يعمل القاضي للمكتوب إليه بما فيه. وروي عن مالكٍ مثله. وحجَّتهم أنَّه لا يجوز أن يشهد الشاهد(18) إلَّا بما يعلم؛ لقوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}[يوسف:81].
          وحجَّة من أجاز ذلك أنَّ الحاكم إذا أقرَّ أنَّه كتابه فقد أقرَّ بما فيه، وليس للشاهدين أن يشهدا على ما ثبت عند الحاكم فيه، وإنَّما الغرض منهما أن يعلم القاضي المكتوب إليه أنَّ هذا كتاب القاضي إليه، وقد يثبت عند القاضي من أمور الناس ما لا يحبُّون(19) أن يعلمه كلُّ أحدٍ مثل(20) الوصيَّة التي يتخوَّف الناس فيها ويذكرون ما فرَّطوا فيه.
          ولهذا(21) يجوز عند مالكٍ أن يشهدوا على الوصيَّة المختومة وعلى الكتاب المدرج(22) ويقولوا للحاكم: نشهد على إقراره بما في هذا الكتاب. وقد كان رسول الله صلعم يكتب إلى عمَّاله ولا يقرؤها على رسله وفيها الأحكام والسنن.
          واختلفوا إن انكسر ختم الكتاب فقال أبو حنيفة وزفر: لا يقبله الحاكم. وقال أبو يوسف: يقبله ويحكم به إذا شهدت به البيِّنة، وهو قول الشافعيِّ، واحتجَّ الطحاويُّ لأبي يوسف فقال: / كتب رسول الله صلعم إلى الروم كتابًا وأراد أن يبعثه غير مختومٍ حتَّى قيل(23): (إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا)، فاتَّخذ الخاتم من أجل ذلك، فدلَّ أنَّ كتاب القاضي حجَّةٌ، وإن لم يكن مختومًا، وخاتمه أيضًا حجَّةٌ.


[1] قوله: ((والمختوم)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((عُمَرُ ☺ إلى عَامِلِهِ في الْحدودِ، وَكَتَبَ)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((وقد روي)).
[4] في (ص): ((أن شهد على وصيته)).
[5] في (ص): ((وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ من الله)).
[6] في (ص): ((واتفق)).
[7] في (ص): ((فلا يشهد)).
[8] في (ص): ((انتقض)).
[9] في (ص): ((وأصل حسن)).
[10] في (ص): ((كتاب)).
[11] في (ص): ((المكتوب)).
[12] في (ص): ((أن لايحتاج في ذلك إليه)).
[13] في (ص): ((الشهادة)).
[14] في (ص): ((الفضلة)).
[15] قوله: ((وذكر أن عُمَر بن عبد العزيز كتب إلى عماله في الحدود وأحكامه حجة)) ليس في (ص).
[16] في (ص):((ونقش)).
[17] في (ص): ((ودفعه)).
[18] في (ص): ((الشاهدين)).
[19] في (ص): ((يجب)).
[20] في (ص): ((من)).
[21] في (ص): ((وبهذا)).
[22] في (ص): ((المندرج)).
[23] زاد في (ص):((له)).