شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: متى يستوجب الرجل القضاء؟

          ░16▒ باب: مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ
          وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللهُ على الْحُكَّامِ أَنْ لا يَتَّبِعُوا الْهَوَى وَلا يَخْشَوُا النَّاسَ، وَلا يَشْتَرُوا بِآَيَاتِهِ(1) ثَمَنًا قَلِيلًا، ثُمَّ قَرَأَ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأرْضِ فاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}(2) الآية[ص:26]، وَقَرَأَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} إلى قوله:{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(3)[المائدة:44]. بِمَا اسْتُحْفِظُوا: اسْتُوْدِعُوا مِنْ كِتَابِ الله(4)، وَقَرَأَ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}(5)[الأنبياء:78]فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ، وَلَوْلا مَا ذَكَرَ اللهُ تعالى مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا؛ لأنَّهُ أَثْنَى على هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ، وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ(6): قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِي مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: أَنْ يَكُونَ فَهِمًا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صَلِيبًا، عَالِمًا سَؤُولَا عَنِ الْعِلْمِ.
          قال المُهَلَّب: أمَّا استحباب الرجل للقضاء(7) فإنَّ أهل العلم قالوا في ذلك: إذا رآه الناس أهلًا لذلك ورأى هو نفسه أهلًا لها، وليس أن يرى نفسه أهلًا لذلك فقط؛ لأنَّه إذا علم الناس منه هذا الرأي لم يفقد من يزيِّن له ذلك ويستحمد إليه. قال مالكٌ: ولا يُستَقضى من ليس بفقيهٍ.
          وذكر ابن حبيبٍ، عن مالكٍ أنَّه قال: إذا اجتمع في الرجل خصلتان رأيت أن يولَّى: العلم والورع(8).
          قال ابن حبيبٍ: فإن لم يكن علمٌ فعقلٌ وورعٌ؛ لأنَّه بالورع يقف، وبالعقل يسأل، وإذا طلب العلم وجده، وإن طلب العقل لم يجده.
          فإن قيل: فإذا استوجب القضاة هل للسلطان أن يجبره على ولايته؟
          قيل: قد روى ابن القاسم عن مالكٍ أنَّه لا يجبر على ولاية القضاء إلَّا أن لا يوجد منه عوضٌ. قيل له: أيجبر بالحبس والضرب؟ قال: نعم.
          قال المُهَلَّب: والحكم الذي ينبغي أن يلزمه القاضي هو توسعة خلقه للسماع من الخصمين، وأن لا يحرج بطول ما يورده أحدهما، وإن رآه غير نافعٍ له في خصامه فليصبر له حتَّى يبلغ المتكلِّم مراده؛ لأنَّه قد يمكن أن يكون ذلك الكلام الذي لا ينتفع به سببًا إلى ما ينتفع به، وأيضًا فإنَّه إذا لم يترك أن يتكلَّم بما يريد نسب إليه الخصم أنه جار عليه ومنعه الإدلاء بحجَّته وأثار على نفسه عداوةً، وربَّما كان ذلك شيئًا لفتنة الخصم، ووجد إليه الشيطان السبيل، وأوهمه أنَّ الجور من الدين.
          وقوله: صليبًا، يريد الصلابة في إنفاذ الحقِّ حتَّى لا يخاف في الله لومة لائمٍ ولا يهاب ذا سلطانٍ أو ذا مالٍ وعشيرةٍ(9)، وليكن عنده الضعيف والقويُّ، والصغير والكبير(10) في الحقِّ سواءً.
          وقول الحسن: (أَخَذَ اللهُ تعالى عَلَى الحُكَّامِ أَنْ لاَ يَتَّبِعُوا الهَوَى، وَلاَ يَخْشَوُا النَّاسَ). وما استشهد عليه من كتاب الله فكلُّ ذلك يدلُّ أنَّ الله تعالى فرض على الحكَّام أن يحكموا بالعدل، وقد قال ╡: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}(11)[النساء:58]، ولذلك فرض عليهم أن لا يخشوا الناس. ولهذا قال عُمَر بن عبد العزيز في صفة القاضي أن يكون صليبًا.
          وقوله: أن يكون عفيفًا. أخذه من قوله الله ╡: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا}[البقرة:41].
          واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}[ص:26]، فقالت طائفةٌ: الآية عامَّةٌ في كلِّ الناس، وكلُّ خصمين تقدَّما إلى حاكم فعليه أن يحكم بينهما، وسواءٌ كان للحاكم ولدٌ أو والدٌ أو زوجةٌ، وهم وسائر الناس في ذلك سواءٌ.
          وذهب الكوفيُّون والشافعيُّ إلى أنَّه لا تجوز شهادته له ويحكم لسائر الناس. وزاد أبو حنيفة: لا يحكم لِوَلدٍ وَلَدَهُ وإن كانوا من قبل النساء، ولا لعبده ومكاتبه وأمِّ ولده؛ لأنَّ هؤلاء: لا تجوز شهادته لهم. واختلف أصحاب مالكٍ في ذلك فقال مُطَرِّفٌ وسحنون: / كلُّ من لا يجوز للحاكم أن يشهد له لا يجوز حكمه له، وهم الآباء فمن فوقهم والأبناء فمن دونهم وزوجته ويتيمه الذي يلي ماله.
          وقال ابن الماجِشون: يجوز حكمه للآباء والأبناء فمن فوقهم ومن دونهم إلَّا لولده(12) الصغير الذي يلي ماله أو يتيمه أو زوجته، ولا يتَّهم في الحكم كما يتَّهم في الشهادة؛ لأنَّه إنَّما يحكم بشهادة غيره من العدول. وقال أصبغ مثل قول مُطَرِّفٍ إذا قال: ثبت له عندي. ولا يدري أثبت له أم لا ولم يحضر الشهود، فإذا حضروا وكانت الشهادة ظاهرةً بحقٍّ بيِّنٍ؛ فحكمه له جائزٌ ما عدا زوجته وولده الصغير ويتيمه الذي يلي ماله. كقول ابن الماجشون؛ لأنَّ هؤلاء كنفسه، فلا يجوز له أن يحكم لهم، والقول الأوَّل أولى بشهادة عموم القرآن له قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}(13)[ص:26]. وخاطب ╡ الحكَّام فقال: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ}[النساء:58]فعمَّ تعالى جميع الناس، وقد حكم النبيُّ صلعم لزوجته عائشة على الذين رموها بالإفك وأقام عليهم الحدَّ.
          وليس ردُّ شهادة الولد لوالده، والوالد لولده بإجماعٍ من الأمَّة فيكون أصلًا لذلك، وقد أجاز شهادة الولد لوالده، والوالد لولده عُمَر بن الخطَّاب وعمر بن عبد العزيز وإياس بن معاوية، وهو قول أبي ثورٍ والمزني وإسحاق.


[1] في (ص):((بآيات الله)).
[2] قوله: ((فاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)) ليس في (ص).
[3] في (ص) (({إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} إلى {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ})).
[4] قوله: ((بِمَا اسْتُحْفِظُوا: اسْتُوْدِعُوا مِنْ كِتَابِ الله)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ.... وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)) ليس في (ص).
[6] قوله: ((وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ)) ليس في (ص).وزاد في (ص): ((وقد)).
[7] في (ص): ((القضاء)).
[8] في (ص):((الورع والعلم)).
[9] في (ص): ((وغيره)).
[10] في (ص): ((والكبير والصغير)).
[11] قوله: ((وقد قال ╡: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ})) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((الولد)).
[13] في (ص): ((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، الآية)).