شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس

          ░14▒ باب: مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ في أَمْورِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ
          كَمَا قَالَ النَّبيُّ صلعم لِهِنْدٍ: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ)، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا.
          فيه: عَائِشَةُ: جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ مَا كَانَ على ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ على ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ(1)، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ الذي لَهُ عِيَالَنَا(2)؟ قَالَ لَهَا: لا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ). [خ¦7161]
          اختلف العلماء في القاضي هل يقضي بعلمه؟ فقال الشافعيُّ وأبو ثورٍ: جائزٌ له أن يقضي بعلمه في حقوق الله وحقوق الناس، سواءٌ علم ذلك قبل القضاء أو بعده. فقال الكوفيُّون: ما شاهده الحاكم من الأفعال الموجبة للحدود قبل القضاء أو بعده، فإنَّه لا يحكم فيها بعلمه إلَّا القذف، وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيه بعلمه في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمَّدٌ: يحكم فيما علمه قبل القضاء بعلمه(3). وقالت طائفةٌ: لا يقضي بعلمه أصلًا في حقوق الله تعالى وحقوق الآدميِّين، وسواءٌ علم ذلك قبل القضاء أو بعده أو في مجلسه. هذا قول شريحٍ والشَّعبيِّ، وهو قول مالكٍ وأحمد وإسحاق وأبي عبيدٍ، وقال الأوزاعيُّ: ما أقرَّ به الخصمان عنده أخذهما به وأنفذه(4) عليهما إلَّا الحدود.
          واحتجَّ الشافعي بحديث هندٍ وأنَّ النبيَّ صلعم قضى لها ولولدها على أبي سفيان بنفقتهم ولم يسألها على ذلك بيِّنةً؛ لعلمه بأنَّها زوجته وأنَّ نفقتها ونفقة ولدها واجبةٌ في ماله، فحكم بذلك على أبي سفيان لعلمه بوجوب ذلك، وأيضًا فإنَّه متيقِّنٌ لصحَّة ما يقضي به إذا علمه علم يقينٍ وليس كذلك الشهادة؛ لأنَّها قد تكون كاذبةً أو واهمةً.
          وقد أجمعوا على أنَّه له أن يعدل ويسقط العدول بعلمه إذا علم أنَّ ما شهدوا به على غير ما شهدوا به، وينفذ علمه في ذلك ولا يقضي بشهادتهم، مثال ذلك أن يعلم بنتًا لرجلٍ ولدت على فراشه، فإن أقام شاهدين أنَّها مملوكته فلا يجوز أن يقبل شهادتهما ويبيح له فرجًا حرامًا، وكذلك لو رأى رجلًا قتل رجلًا، ثمَّ جيء بغير القاتل وشهد شاهدان(5) أنَّه القاتل فلا يجوز أن يقبل الشهادة، وكذلك لو سمع رجلًا طلَّق امرأته طلاقًا بائنًا، ثمَّ ادَّعت عليه المرأة الطلاق وأنكر ذلك الزوج، فإن جعل القول قوله فقد أقامه على فرجٍ حرامٍ فيفسق به، ولم يكن له بدٌّ من أن لا يقبل قوله فيحكم بعلمه.
          واحتجَّ أصحاب أبي حنيفة بأنَّ ما علمه الحاكم قبل القضاء إنَّما حصل في(6) الابتداء على طريق الشهادة فلم يجز أن نجعله حاكمًا؛ لأنَّه لو حكم به لكان قد حكم بشهادة نفسه فكان متَّهمًا، وصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره، وأيضًا فإنَّ علمه لمَّا تعلق به الحكم على وجه الشهادة فإذا قضى به صار كالقاضي بشاهدٍ واحدٍ.
          قالوا: والدليل على جواز حكمه فيما(7) علمه في حال القضاء وفي مجلسه قوله صلعم: ((إنَّما أقضي على نحو ما أسمع)) ولم يفرِّق بين سماعه من الشهود أو المدَّعى عليه فيجب أن يحكم بما سمعه من المدَّعى عليه(8) كما يحكم بما سمعه من الشهود. /
          واحتجَّ أصحاب مالكٍ فقالوا: الحاكم غير معصومٍ، ويجوز أن تلحقه الظنَّة في أن يحكم لولِّيه على عدوِّه، فحسمت المادَّة في ذلك بأن لا يحكم بعلمه؛ لأنَّه ينفرد به ولا يشركه غيره فيه. وأيضًا فإنَّ النبيَّ صلعم قال في حديث اللعان: ((إن جاءت به على نعت كذا فهو الذي رميت به)) فجاءت به على العنت المكروه، فقال صلعم: ((لو كنت راجمًا أحدًا بغير بيِّنةٍ لرجمت هذه)) وقد علم أنَّها زنت فلم يرجمها لعدم البيِّنة، والنبيُّ صلعم وإن كان لم يقطع أنَّها تأتي به على أحد النعتين فقد قطع على أنَّها إن جاءت به على(9) أحدهما، فهو لمن وصف لا محالة، وهذا لا يكون منه إلَّا بعلم.
          روي(10) عن أبي بكر الصدِّيق أنَّه قال: لو رأيت رجلًا على حدٍّ لم أحدَّه حتَّى يشهد بذلك عندي شاهدان. ولا مخالف له في الصحابة.


[1] قوله: ((وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ على ظَهْرِ الأرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((عياله)).
[3] قوله: ((إلا القذف، وما علمه.... قبل القضاء بعلمه)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((وأنفذهما)).
[5] قوله: ((شاهدان)) ليس في (ص).
[6] في (ص) ((فإنما حصل في حال)).
[7] في (ص): ((بما)).
[8] قوله: ((فيجب أن يحكم بما سمعه من المدعى عليه)) ليس في (ص).
[9] قوله: ((أنها إن جاءت به على)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((وروي)).