شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية

          ░4▒ باب: السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ / لِلإمَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً
          فيه: أَنَسٌ: قَالَ النبيُّ صلعم: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلو اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ). [خ¦7142]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً). [خ¦7143]
          وفيه: ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيُّ صلعم: (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ على الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ). [خ¦7144]
          وفيه: عَلِيٌّ: أَنَّ النَّبيَّ صلعم بَعَثَ سَرِيَّةً فأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبيُّ صلعم أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا وَأَوْقَدُوا(1)، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبيُّ صلعم فِرَارًا مِنَ النَّارِ، أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ ذلك لِلنَّبِيِّ صلعم، فَقَالَ: (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ في الْمَعْرُوفِ). [خ¦7145]
          قال محمَّد بن جريرٍ: في حديث عليٍّ وحديث(2) ابن عمر البيان الواضح عن نهي الله على لسان رسوله صلعم عباده عن طاعة مخلوقٍ في معصية خالقه، سلطانًا كان الآمر بذلك أو سوقة(3) أو والدًا أو كائنًا من كان. فغير جائزٍ لأحدٍ أن يطيع أحدًا من الناس في أمرٍ قد صحَّ عنده نهي الله ╡ عنه.
          فإن ظنَّ ظانٌّ أنَّ في قوله ◙ في حديث أنسٍ: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) وفي قوله ◙ في حديث ابن عبَّاسٍ: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ) حجَّةٌ لمن أقدم على معصية الله تعالى بأمر سلطان أو غيره، وقال: قد وردت الأخبار بالسمع والطاعة لولاة الأمر، فقد ظنَّ خطئًا، وذلك أنَّ أخبار رسول الله صلعم لا يجوز أن تتضادَّ، ونهيه وأمره ◙ غير جائزٍ(4) أن يتناقض أو يتعارض، وإنَّما الأخبار الواردة بالسمع والطاعة لهم ما لم يكن خلافًا لأمر الله ╡ وأمر رسوله ◙، فإذا كان خلافًا لذلك فغير جائزٍ لأحدٍ أن يطيع أحدًا في معصية الله ومعصية رسوله صلعم، وبنحو ذلك قال عامَّة السلف.
          حدَّثنا أبو كريبٍ قال: حدَّثنا ابن(5) إدريس، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي(6) خالدٍ، عن مصعب بن سعدٍ قال: قال عليٌّ ☺: حقٌّ(7) على الإمام أن يحكم بما أنزل الله تبارك وتعالى ويؤدِّي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقٌّ على الناس أن يسمعوا ويطيعوا. وروي مثله عن معاذ بن جبلٍ.
          قال المُهَلَّب: قوله ◙: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) لا يوجب أن يكون المستعمل للعبد إلَّا إمامٌ قرشيٌّ، لما تقدَّم أنَّه لا تجوز الإمامة إلَّا في قريشٍ، وقد(8) أجمعت الأمَّة على أنَّه لا يجوز أن تكون الإمامة(9) في العبيد.
          وقوله: (مَنْ رَأَى شَيئًا يَكرَهُهُ فَليَصبِر) يعني: من الظلم والجور. فأمَّا من رأى شيئًا من معارضة الدين(10) ببدعةٍ أو قلب شريعةٍ، فليخرج من تلك الأرض ويهاجر منها، وإن أمكنه إمام عدلٍ واتَّفق عليه جمهور الناس فلا بأس بخلع الأوَّل، وإن(11) لم يكن معه إلَّا قطعةٌ من الناس أو ما يوجب الفرقة فلا يحلُّ له الخروج.
          قال أبو بكر بن الطيِّب: أجمعت الأمَّة أنَّه يوجب خلع الإمام وسقوط فرض طاعته كفره بعد الإيمان، وتركه إقامة الصلاة والدعاء إليها، واختلفوا إذا كان فاسقًا ظالمًا غاصبًا للأموال؛ يضرب الأبشار ويتناول النفوس المحرَّمة ويضيِّع الحدود ويعطِّل الحقوق، فقال كثيرٌ من الناس: يجب خلعه لذلك.
          وقال الجمهور من الأمَّة وأهل الحديث: لا يخلع بهذه الأمور، ولا يجب الخروج عليه؛ بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته فيما يدعو إليه من معاصي الله ╡، واحتجُّوا بقوله صلعم: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) وأمره صلعم بالصلاة وراء كلِّ برٍّ وفاجرٍ، وروي أنَّه قال: ((أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك ما أقاموا الصلاة)). قال القاضي(12) أبو بكر: وممَّا يوجب خلع الإمام / تطابق الجنون عليه وذهاب تمييزه حتَّى يُيْأس من صحته، وكذلك إن صمَّ أو خرس وكبر وهرم، أو عرض له أمر يقطعه عن مصالح الأمَّة؛ لأنَّه إنَّما نصب لذلك؛ فإذا عطَّل ذلك وجب خلعه، وكذلك إن جعل مأسورًا في أيدي العدوِّ إلى مدَّةٍ يخاف معها الضرر الداخل على الأمَّة ويئس من خلاصه وجب الاستبدال به.
          فإن فكَّ أسره وثاب عقله أو برئ من مرضه و زمانته(13) لم يعد إلى أمره وكان رعيَّةً للأوَّل؛ لأنَّه عقد له عند خلعه وخروجه من الحقِّ فلا حقَّ له فيه، ولا يوجب خلعه حدوث فضلٍ في غيره كما يقول أصحابنا: إن حدوث الفسق في الإمام بعد العقد لا يوجب خلعه، ولو حدث عند ابتداء العقد لبطل العقد له ووجب(14) العدول عنه.
          وأمثال هذا في الشريعة كثيرٌ، منها أنَّ المتيمِّم لو وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لوجب عليه الوضوء به، ولو طرأ عليه وهو فيها لم يلزمه، وكذلك لو وجبت عليه الرقبة في الكفَّارة وهو موسرٌ لم يجزه غيرها، ولو حدث له اليسار بعد مضيِّه في شيءٍ من الصيام لم يبطل حكم صيامه ولا لزمه غيره.
          قال المُهَلَّب: وقوله في حديث علي: (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا) فالأبد هاهنا يراد به أبد الدنيا؛ لقوله ╡: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}[النساء:48]، ومعلومٌ أنَّ الذين همُّوا بدخول النار لم يكفروا بذلك فيجب عليهم التخليد أبد الآخرة، ألا ترى قولهم: (إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صلعم فِرَارًا مِنَ النَّارِ)، فدلَّ هذا أنَّه أراد ◙: لو دخلوها لماتوا فيها ولم يخرجوا منها مدَّة الدنيا والله أعلم.


[1] زاد في (ص): ((نارًا)).
[2] قوله: ((حديث)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((أو سوقة)) ليس في (ص).
[4] في (ص):((لا يجوز)).
[5] قوله: ((ابن)) زيادة من (ص).
[6] قوله: ((أبي)) زيادة من (ص).
[7] في (ص): ((يحق)).
[8] في (ص):((وإنما)).
[9] قوله: ((أن تكون الإمامة)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((الله)).
[11] في (ص):((فإن)).
[12] قوله: ((القاضي)) ليس في (ص).
[13] في (ص):((من زمانته ومرضه)).
[14] في (ز): ((وجب)) والمثبت من (ص).