إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنكم محشورون حفاةً عراةً غرلًا

          3349- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) _بالمثلَّثة_ العبديُّ البصريُّ قال: (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) الثَّوريُّ قال: (حَدَّثَنَا المُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ) النَّخعيُّ الكوفيُّ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ولابن عساكر: ”أُراه“ _بضمِّ الهمزة_ أي: أظنُّه ”عن ابن عبَّاسٍ“ ( ☻ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ) عند الخروج من القبور حال كونكم (حُفَاةً) بضمِّ الحاء المهملة وتخفيف الفاء، جمع حافٍ، أي: بلا خفٍّ ولا نعلٍ (عُرَاةً) أي: لا ثياب عليهم جميعهم، أو بعضهم يُحشَر عاريًا، وبعضهم كاسيًا، لحديث أبي(1) سعيدٍ عند أبي داود وصحَّحه ابن حبَّان مرفوعًا: «إنَّ الميت يُبعَث في ثيابه الَّتي يموت فيها» (غُرْلًا) بضمِّ الغين المعجمة وإسكان الرَّاء، أي(2): غير مختونين، والغرلة: ما يقطعه الخاتن وهي القلفة (ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ}[الأنبياء:104]) أي: نوجده بعينه بعد إعدامه مرَّةً أخرى، أو نعيد تركيب أجزائه بعد تفريقها(3) من غير إعدامٍ، والأوَّل أوجه لأنَّه تعالى شبَّه الإعادة بالابتداء، والابتداء ليس عبارةً عن تركيب الأجزاء المتفرِّقة، بل عن الوجود‼ بعد العدم، فوجب أن تكون الإعادة كذلك ({وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]) الإعادة والبعث. وقوله / : {وَعْدًا} نُصِبَ على المصدر المُؤكِّد لمضمون الجملة المتقدِّمة، فناصبه مضمَرٌ، أي: وَعَدْنا ذلك وعدًا، قال ابن عبد البرِّ: يُحشَر الآدميُّ عاريًا، ولكلٍّ من الأعضاء ما كان له يوم وُلِد، فمن قُطِع منه شيءٌ يُرَدُّ إليه حتَّى الأقلف، وقال أبو الوفاء بن عَقِيلٍ: حشفة الأقلف موقَّاةٌ بالقلفة فتكون أرقَّ، فلمَّا أزالوا تلك القطعة(4) في الدُّنيا أعادها الله تعالى، ليذيقها من حلاوة فضله. وفي «شرح المشكاة»: فإن قلت: سياق الآية في إثبات الحشر والنَّشر، لأنَّ المعنى: نُوجِدكم عن(5) العدم كما أوجدناكم أوَّلًا عن العدم، فكيف يستشهد بها للمعنى المذكور، أي(6): من كونهم غرلًا؟ وأجاب: بأنَّ سياق الآية وعبارتها دلَّ(7) على إثبات الحشر، وإشارتها على المعنى المراد من الحديث، فهو من باب الإدماج.
          (وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى) من الأنبياء (يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ) بعد حشر النَّاس كلِّهم عراةً، أو بعضهم كاسيًا، أو بعد خروجهم من قبورهم بأثوابهم الَّتي ماتوا فيها، ثمَّ تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر فيُحشَرون عراةً، ثمَّ يكون أوَّل من يُكسَى من الجنَّة(8) إبراهيم ◙ ، وزاد البيهقيُّ مرفوعًا من حديث ابن عبَّاسٍ: «وأوَّل من يُكسَى من الجنَّة إبراهيم، يُكسَى حلَّةً من الجنَّة، ويُؤتَى بكرسيٍّ فيُطرَح عن يمين العرش، ثمَّ يُؤتَى بي فأُكسَى حلَّةً من الجنَّة لا يقوم لها البشر». قيل: والحكمة في كون الخليل أوَّل من يُكسَى؛ لكونه(9) جُرِّد حين أُلقِي في النَّار، ولا يلزم من تخصيص إبراهيم بأوَّليَّة الكسوة هناك أفضليَّته على نبيِّنا محمَّدٍ(10) صلعم ، لأنَّ حلَّة نبيِّنا أعلى وأكمل، فتَجْبُر بنفاستها ما فات من الأوَّليَّة، وكم(11) لنبيِّنا صلعم من فضائل مختصَّةٍ به، لم يُسبَق إليها ولم يُشارَك فيها، ولولم يكن له سوى خصوصيَّة الشَّفاعة العظمى، لكفى(12) (وَإِنَّ أُنَاسًا) بهمزةٍ مضمومةٍ، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: ”وإنَّ ناسًا“ (مِنْ أَصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) وهي جهة النَّار (فَأَقُولُ: أَصْحَابِي أَصْحَابِي) أي: هؤلاء أصحابي، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: ”أُصَيحابي، أُصَيحابي“ _مُصغرين_ إشارةً إلى قلَّة عددهم، والتَّكرير للتَّأكيد (فَيُقَالُ(13): إِنَّهُمْ لَمْ) بالميم، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْميهَنيِّ: ”لن“ (يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) بالكفر (مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ) قيل: المراد بهم: قومٌ من جفاة الأعراب ممَّن لا نصرة له في الدِّين ممَّن ارتدَّ بعد موته صلعم ، ولا يقدح ذلك في الصَّحابة المشهورين، فإنَّ أصحابه _وإن شاع استعماله عرفًا فيمن لَازمَه من المهاجرين والأنصار_ شاع استعماله في كلِّ من تبعه، أو أدرك حضرته ووفد عليه ولو مرَّةً، أو المراد بالارتداد‼: إساءة السِّيرة والرُّجوع عمَّا كانوا عليه من الإخلاص وصدق النِّيَّة (فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ) عيسى ابن مريم: ({وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ}) أي: رقيبًا عليهم أمنعهم من الارتداد، أو مشاهدًا لأحوالهم من كفرٍ وإيمانٍ (إِلَى قَوْلِهِ: {الْحَكِيمُ}[المائدة:117-118]) ولأبي ذرٍّ: ”{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}“.
          وهذا الحديث أخرجه(14) في «التَّفسير» [خ¦4625] و«الرِّقاق» [خ¦6526] و«أحاديث الأنبياء» [خ¦3447]، ومسلمٌ في «صفة القيامة» و«التَّفسير»، والنَّسائيُّ في «الجنائز» و«التَّفسير».


[1] «أبي»: سقط من غير (د).
[2] «أي»: ليس في (د).
[3] في (د): «تفرُّقها»، وفي (ص) و(ل): «تفرقتها».
[4] في (د): «القلفة».
[5] في (م): «من».
[6] «أي»: ليس في (د).
[7] في (م): «يدلُّ».
[8] «من الجنَّة»: ليس في (د).
[9] في (د): «لأنَّه».
[10] «محمَّدٍ»: مثبتٌ من (م).
[11] في (ص): «ولما».
[12] كُتِب فوقها في (د): «لعلَّه».
[13] في نسخة (ج): «فيقول»، وكتب على هامشها: «فيقال»، كذا في «الفرع».
[14] زيد في (م): «أيضًا».