إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب قول الله تعالى:{وإلى مدين أخاهم شعيبًا}

          ░34▒ (بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ}) قيل: أعجميٌّ مُنِع من الصَّرف للعجمة والعلميَّة(1)، وهو مدين بن إبراهيم ◙ ({أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود:84]) وهو ابن(2) نُوَيب بن مدين(3) بن إبراهيم، وقال ابن إسحاق: شعيب بن ميكيل(4) بن يشجر بن مدين بن إبراهيم، أي: أرسلنا شعيبًا (إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ) يعني: على حذف مضافٍ (لأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ) على بحر القلزم، محاذيةً لتبوك على ستِّ مراحل منها، وأنشد الفرَّاء‼:
رهبانُ مدينَ والَّذين عهدتُهم                     يبكون من حَذَرِ العذابِ قُعودا
لو يسمعون كما سمعتُ كلامَها                     خرُّوا لعزَّة ركَّعًا وسجودا
          وهذا عربيٌّ، فمنعه للعلميَّة والتَّأنيث (وَمِثْلُهُ) في حذف المضاف: ({وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وَاسْأَلِ {وَالْعِيْرَ}[يوسف:82] يَعْنِي: أَهْلَ القَرْيَةِ وَأَهْلَ العِيرِ) ويجوز أن يُراد بالمكان ساكنوه. وقيل: «مدين» أعجميٌّ مُنِع للعلميَّة والعجمة، وكان شُعيبٌ يُقال له: خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته قومه، وكانوا أهل كفرٍ وبخسٍ للمكيال والميزان.
          ({وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا}[هود:92]) بسورة هودٍ، أي: (لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ) فالضَّمير في {وَاتَّخَذْتُمُوهُ} يعود على الله، وقيل: يعود على العصيان، أي: واتَّخذتم العصيان عونًا على عداوتي، فالظَّهريُّ على هذا بمعنى: المعين المقوّي، والظِّهريُّ(5) هو المنسوب إلى الظَّهر، والكسر من تغييرات النَّسب، كقولهم في النِّسبة إلى الأمس: إِمسيٌّ بكسر الهمزة، وإلى الدَّهر: دُهريٌّ بضمِّ الدَّال (يُقَالُ إِذَا لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ) ولأبوي الوقت وذرٍّ: ”ويُقال: إذا لم تقض“ بالفوقيَّة بدل التَّحتيَّة: (ظَهَرْتَ) بفتح الظَّاء المعجمة والهاء وسكون(6) الرَّاء وفتح الفوقيَّة (حَاجَتِي) أي: جعلتها وراء ظهرك (وَ) يُقال أيضًا إذا لم يلتفت إليه ولا قضى حاجته: (جَعَلَتْنِي ظِهْرِيًّا) أي: وراء ظهرك. و(قَالَ) أي: البخاريُّ: (الظِّهْرِيُّ: أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ) أي: تتقوَّى به (مَكَانَتُهُمْ وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ) وفي نسخةٍ بجرِّهما. قال في «الفتح»: هكذا وقع / ، وإنَّما هو في قصَّة شعيبٍ {مَكَانَتِكُمْ} في قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ}[هود:93] ثمَّ هو قول أبي عبيدة، قال في تفسير يس في قوله: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ}: المكان والمكانة واحدٌ.
          ({يَغْنَوْاْ}) في قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا}[هود:95]. أي: لم (يَعِيشُوا) فيها، والمعنى: الدَّار، والجمع: مغانٍ بالغين المعجمة، قاله أبو عبيدة.
          (يَأْيَسُ) بفتح التَّحتيَّة بعدها همزةٌ ساكنةٌ فتحتيَّةٌ مفتوحةٌ، أي: (يَحْزَنُ) وأشار إلى قوله تعالى: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[المائدة:68]. ولأبي ذرٍّ: ”تأسَ“ بإسقاط التَّحتيَّة بعد الهمزة ”تحزن“ وبالفوقيَّة بدل التَّحتيَّة فيهما(7).
          ({آسَى}) في قوله تعالى: {فَكَيْفَ آسَى}[الأعراف:93] أي: كيف (أَحْزَنُ) وأتوجَّع؟!
          (وَقَالَ الحَسَنُ) البصريُّ فيما وصله ابن أبي حاتمٍ في قوله: ({إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[هود:87] يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ) كما يُقال للبخيل الخسيس: لو رآك حاتمٌ لسجد لك، وقال ابن عبَّاسٍ: أرادوا: السَّفيه الغاوي، والعرب تصف الشَّيء بضدِّه، فتقول للَّديغ: سليمٌ، وللفلاة: مفازةُ.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْكَةُ) بلامٍ مفتوحةٍ من غير ألفِ وصلٍ قبلها ولا همزةٍ بعدها، وهي قراءة نافعٍ وابن كثيرٍ وابن عامرٍ، هي: (الأَيْكَةُ) بهمزة وصلٍ وسكون اللَّام بعدها همزةٌ مفتوحةٌ، وهي قراءة الباقين، أي: الغيضة، فيكونان مترادفين، وقيل: الأيكة غيضةٌ، نبتٌ(8) ناعم الشَّجر، يريد: غيضةٌ بقرب مدين يسكنها طائفةٌ، وقيل: شجرٌ ملتفٌّ، و«ليكة» _بغير ألفٍ_ اسمُ بلدهم، وبقيَّة مباحث ذلك في كتابي «الجامع للقراءات الأربع عشرة».
          ({يَوْمِ الظُّلَّةِ}[الشعراء:189]) هو (إِظْلَالُ الغَمَامِ العَذَابَ(9)) ولأبي ذرٍّ: ”إظلال العذاب(10)“ (عَلَيْهِمْ) ورُوِي: أنَّه أخذهم حرٌّ شديدٌ فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشدَّ حرًّا، فخرجوا فأظلَّتهم سحابةٌ؛ وهي الظُّلَّة، فاجتمعوا تحتها فأمطرت‼ عليهم نارًا فاحترقوا. وهذا الباب كلُّه ثابتٌ في رواية الكُشْميهَنيِّ والمُستملي فقط كالَّذي قبله.


[1] «والعلميَّة»: ليس في (د).
[2] «ابن»: سقط من جميع النُّسخ، والمثبت موافقٌ لِمَا في التَّفاسير.
[3] في (د): «هو شعيب بن مدين».
[4] في (د): «ميكائيل».
[5] «والظِّهريُّ»: ليس في (د).
[6] في (د): «وبسكون».
[7] في (ب) و(ص): «بينهما»، وهو تحريفٌ.
[8] في (ب) و(س): «تنبت».
[9] في (م): «الغمام»، وزيد في (د): «عليهم» وليس في الموضع اللَّاحق.
[10] في غير (د) و(م): «الغمام» والمثبت موافقٌ لما في «اليونينيَّة».