إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: {وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك}

          ░45▒ هذا (بابٌ) بالتَّنوين من غير ترجمةٍ، وهو كالفصل من سابقه ({وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ}) جبريل وحده، لدلالة ما في سورة مريم على أنَّ المتكلِّم معها جبريل، حيث قال الله(1): {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا}[مريم:17] ({يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ}) بأن قبلك للنَّذيرة ولم يقبل(2) أنثى غيرك، وتفريغك للعبادة وإغنائك برزق الجنَّة عن الكسب ({وَطَهَّرَكِ}) ممَّا(3) يُستقذَر من النِّساء ({وَاصْطَفَاكِ}) بالهداية وإرسال جبريل إليك، وتخصيصك بالكرامات السَّنيَّة، كالولد من غير أبٍ، وتبرئتك ممَّا قذفتك اليهود بإنطاق الطِّفل ({عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ}) وقد دلَّت هذه الآية على أنَّها أفضل من سائر النِّساء ({يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ}) اعبديه ({وَاسْجُدِي}) صلِّي، وتسمية الشَّيء بأشرف أجزائه مجازٌ مشهورٌ ({وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ}) لم يقل: مع الرَّاكعات، لأنَّ الاقتداء بالرَّجل(4) حال الاختفاء من الرِّجال أفضل من الاقتداء بالنِّساء، وقدَّم السُّجود على الرُّكوع؛ إمَّا لكونه كذلك في شريعتهم، أو أنَّ(5) الواو لا تقتضي ترتيبًا(6) ({ذَلِكَ}) مبتدأٌ، أي: ما ذُكِر من القصص، خبره: ({مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ}) وجملة ({نُوحِيهِ إِلَيكَ}) مستأنفةٌ، والضَّمير في {نُوحِيهِ إِلَيكَ} عائدٌ على الغيب، أي: الأمر والشَّأن أنَّا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ونظهرك على قصص من تقدَّمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في {نُوحِيهِ} ({وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ}) بحضرتهم ({إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ}) أي(7): سهامهم(8) للاقتراع، أو أقلامهم الَّتي كانوا يكتبون بها التَّوراة تبرُّكًا، ينظرون أو يقولون: ({أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[آل عمران:42-44]) تنافسًا في كفالتها، إمَّا لأنَّ أباها عمران كان(9) رئيسًا لهم، أو لأنَّ أمَّها حرَّرتها لعبادة الله تعالى ولخدمة(10) بيته، وسقط لأبي ذرٍّ من قوله(11): «{وَطَهَّرَكِ} إلى آخر قوله: {أَقْلاَمَهُمْ}»، وقال بعد {اصْطَفَاكِ}: ”الآية(12) إلى قوله(13): {أَيُّهُمْ}“.
          (يُقَالُ: {يَكْفُلُ}) أي: (يَضُمُّ، {وَكَفَلَهَا}[آل عمران:37]) أي: (ضَمَّهَا) زكريَّا إلى نفسه حال كونه كفلها (مُخَفَّفَةً) وهي قراءة نافعٍ وأبي عمرٍو وابن كثيرٍ وابن عامرٍ، وقراءة الكوفيِّين بالتَّشديد، أي: كفَّلها الله تعالى إيَّاه(14)، ولا مخالفة بين القراءتين، لأنَّ الله تعالى لمَّا كفَّلها إيَّاه كفلها (لَيْسَ مِنْ كَفَالَةِ الدُّيُونِ) بالجمع‼، وفي نسخةٍ: ”الدَّين“ (وَشِبْهِهَا) قال في «اللُّباب»: الكفالة: الضَّمان في الأصل، ثمَّ يُستعار للضَّمِّ والأخذ، يُقال منه: كَفَلَ يكْفُل، وكَفِلَ يكْفَل _كعَلِمَ يَعْلَم_ كفالةً وكفلًا، فهو كافلٌ وكفيلٌ، والكافل هو الَّذي ينفق على إنسانٍ ويهتمُّ بإصلاح حاله.


[1] اسم الجلالة: ليس في (د).
[2] في (د): «تُقبَل».
[3] في (د): «عمَّا».
[4] في (م): «بالرِّجال».
[5] في (د): «لأنَّ».
[6] في (د): «التَّرتيب».
[7] «أي»: ليس في (ص).
[8] في (د): «أسهامهم».
[9] «كان»: ليس في (ص).
[10] في (ص) و(م): «خدمة».
[11] «من قوله»: ليس في (د).
[12] «الآية»: ليس في (د)، وضُرِب عليها في (م).
[13] «قوله»: ليس في (م).
[14] «إيَّاه»: مثبتٌ من (د).