إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

قوله: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم}

          ░47▒ (قَوْلُهُ ╡) وفي نسخةٍ: ”باب قوله تعالى“: ({يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}) قال القاضي عياضٌ: وقع في رواية الأَصيليِّ هنا: ”{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ}“ ولغيره: بحذف {قُلْ} وهو الصَّواب، أي: في هذه الآية. نعم(1) ثبت في آية المائدة: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}[المائدة:77] والمراد هنا: آية النِّساء ({لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ}) الخطاب للنَّصارى، أي: لا تجاوزوا الحدَّ في تعظيم المسيح؛ وذلك أنَّ الملكانيَّة(2) اتَّخذوه إلهًا، واليعقوبيَّة يقولون: إنَّه ابن الله، والمرقوسيَّة يقولون: ثالث ثلاثةٍ، أو الخطاب مع الفريقين؛ وذلك أنَّ اليهود بالغوا في الحطِّ حتَّى قالوا: إنَّه غير رشيدٍ، وذلك في الدِّين حرامٌ ({وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ}) استثناءٌ مُفرَّغٌ، فالنَّصب على المفعوليَّة لتضمُّنه معنى القول، نحو: قلت خطبةً، أو نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: إلَّا(3) القول الحقَّ. أي: نزِّهوه عن الصَّاحبة والولد والشَّريك والحلول والاتِّحاد‼ ({إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ}) أوصلها إليها، و{الْمَسِيحُ} مبتدأٌ، و{عِيسَى} بدلٌ منه، أو عطف بيانٍ، و{ابْنُ مَرْيَمَ} صفةٌ، و{رَسُولُ اللّهِ} خبر المبتدأ، و{وَكَلِمَتُهُ} عطفٌ عليه، و{أَلْقَاهَا} جملةٌ في موضع الحال من الضَّمير المستتر في {وَكَلِمَتُهُ} العائد(4) على عيسى ({وَرُوحٌ مِّنْهُ}) أي: وذو روحٍ، صدرت منه بأمره لجبريل أن ينفخ في درع مريم فحملت به، أو لأنَّه كان يحيي الأموات أو القلوب ({فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ}) خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: لا تقولوا: آلهتنا ثلاثةٌ، والجملة في موضع نصبٍ بالقول ({انتَهُواْ}) عن التَّثليث ({خَيْرًا لَّكُمْ}) ثمَّ أكَّد التَّوحيد بقوله: ({إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ}) بالذَّات لا تعدُّد فيه بوجهٍ ما، ثمَّ نزَّه نفسه عن الولد بقوله: ({سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ}) وتقديره: من أن يكون، أي: نزِّهوه من أن يكون له ولدٌ، فإنَّه يكون لمن يعادله مِثْلٌ ويتطرَّق إليه فناءٌ ({لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ}) مُلْكًا وخَلْقًا، وعيسى ومريم في جملة ذلك ({وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً}) كافيًا(5) في تدبير(6) المخلوقات وحفظ المُحْدَثات، لا يحتاج معه إلى إلهٍ آخر يعينه مستغنيًا عمَّن يخلفه من ولدٍ أو غيره، وسقط قوله: «{وَلاَ تَقُولُواْ}...» إلى آخره لأبي ذرٍّ، وقال بعد قوله: ”{فِي دِينِكُمْ} إلى {وَكِيلاً}“.
          (قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ) القاسم بن سلامٍ: ({وَكَلِمَتُهُ}) في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ}[النساء:171] هي قوله جلَّ وعلا: ({كُن} فَكَانَ) من غير واسطة أبٍ ولا نطفةٍ.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) غير أبي عُبيدٍ القاسم: ({وَرُوحٌ مِّنْهُ}[النساء:171]) أي: (أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحًا) وهذا قول أبي عبيدة معمر بن المثنَّى، وسبق قريبًا غيره.
          ({وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ}[النساء:171]) أي / : آلهةٌ ثلاثةٌ _الله والمسيح ومريم_ ويشهد له قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ}[المائدة:116] أو أنَّهم يقولون: إنَّ الله جوهرٌ واحدٌ وله ثلاثة أقانيم، فيجعلون كلَّ أقنومٍ إلهًا، ويعنون بالأقانيم: الوجود والحياة والعلم، وربَّما يعنون بالأقانيم: الأب والابن وروح القدس، ويريدون بالأب: الوجود، وبالرُّوح: الحياة، وبالمسيح(7): العلم، أو الأب: الذَّات، والابن: العلم، والرُّوح: الحياة، في كلامٍ لهم فيه تخبيطٌ، ومُحصَّله يؤول إلى التَّمسُّك بأنَّ عيسى إلهٌ بما كان يُجري الله تعالى على يديه من الخوارق، وقالوا: قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور(8) البشر، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفًا بالإلهيَّة، فيُقال لهم: لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلًّا به كان تخليصه من أعدائه من مقدوراته، وليس كذلك، فإن اعترفوا بذلك سقط استدلالهم، وإن لم يسلِّموا فلا حجَّة لهم أيضًا؛ لأنَّهم معارضون بخوارق‼ العادات الجارية على أيدي غيره من الأنبياء؛ كفلق البحر، وقلب العصا حيَّةً لموسى.


[1] في (ص) و(م): «الآية مع أنَّه».
[2] في غير (ب) و(س): «الملكيَّة».
[3] في (ب): «لا»، وهو تحريفٌ.
[4] في (د): «العائدة»، وفي الهامش نسخةٌ كالمثبت.
[5] في غير (ب) و(س): «كافٍ».
[6] في (ص): «تدبيره».
[7] في (د) و(م): «وبالابن».
[8] في (ص) و(ل): «أمور».