الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}

          ░32▒ (باب: قَوله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفاعة عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} إلى آخره [سبأ:23])
          كتبَ الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع»: قصد بذلك إثبات المَطْلبين إن(1) العبد كاسب لا كما توهَّمت الجبريَّة أنَّه مجبور محضٌ، لا دخل له في شيء ممَّا يوجد مِنَ الأقوال والأفعال والحركات(2) والسَّكنات، ودلالة الرِّوايات على هذا المعنى ظاهرة، حيث ذُكر في كلٍّ منها شيءٌ مِنْ أفعال العباد، كما يظهر بأدنى تأمُّل، وأنَّ الخالق تعالى متكلِّم بكلام قديم هو صفته، وما زعمه أهل الأهواء مِنْ أنَّ معنى قوله تعالى حيث ورد،كما في قوله: {قَالَ رَبُّكُمْ} وغيره هو خلق القول والكلام في غيره، لا أنَّه تعالى متكلِّم بكلام قديم هو صفته باطل، واستدلَّ على هذا المدَّعى بقوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23]حيث نسب القول إلى الرَّبِّ تعالى، ولم يقل: ماذا خلق ربُّكم فيكم مِنَ الكلامِ مع أنَّه لو كان المعنى خلق القول فيهم، لما احتاجوا إلى السُّؤال عن غيرهم، فعُلم أنَّ تأويلهم هذا باطل، وأيضًا فإنَّ المؤلِّف يشير في هذا الباب إلى أنَّ لله تعالى أفعالًا وأعمالًا، وذلك ليثبت به أنَّ الله(3) تعالى صفاتٍ قديمةً أيضًا. انتهى.
          قلت: وعامَّة الشُّرَّاح على أنَّ المقصود(4) المصنِّف إثباته(5) صفة الكلام كما سيأتي في كلام الشُّرَّاح، وهو المذكور في «تقرير مولانا محمَّد حسن المكِّيِّ» عن الشَّيخ الكَنكَوهيِّ، وأمَّا على ما أفاده الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع» فليست التَّرجمة لإثبات صفة الكلام فقط، بل التَّرجمة عنده جامعة مشتملة على أمور وعدَّة أجزاء مذكورة في كلامه، وعلى هذا مطابقة أحاديث الباب للتَّرجمة واضحة، وأمَّا على ما اختاره الشُّرَّاح في الغرض مِنَ التَّرجمةِ، فمطابقة بعض الأحاديث للتَّرجمة غير واضحة، كما سيأتي.
          وقد تقدَّم أنَّ هذا أوَّلُ باب في مسألة الكلام عند الحافظ إذ قال: وهذا أوَّل باب تكلَّم فيه البخاريُّ على مسألة الكلام، وهي طويلة الذَّيل، قد أكثر أئمَّةُ الفِرَق فيها القولَ... إلى آخر ما بسط الكلام على هذه المسألة.
          وفي «تقرير المكي»: قوله: {لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}[سبأ:23] إلى آخره، فثبت الكلام لله تعالى، وهو المطلوب في هذا الباب، بل أكثر هذه الأبواب في إثبات الكلام، ومقصوده مِنْ تكثير أحاديثه تكفير المعتزلة المنكِرة لكلام الله تعالى بأنَّ هذه الأحاديث لكثرتها بلغت حدَّ التَّواتر، فمنكرها كافرٌ، ومذهب المحدِّثين تكفير أهل الهوى كلِّهم، وإن كانوا مِنْ أهل القبلة. انتهى.
          قلت: ومسألة تكفير أهل البدع مِنْ أهل القبلة وسيعةُ الذَّيل خلافيَّة مبسوطة في محلِّها، فارجع إليه.
          قالَ العلَّامةُ العينيُّ: غرض البخاريِّ مِنْ ذكر هذه الآية بل مِنَ الباب كلِّه بيان كلام الله القائم بذاته، ودليله أنَّه قال: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ولم يقل: ماذا خلق ربُّكم؟ وفيه ردٌّ للمعتزِلة والخوارج والمرجِئة والجهميَّة والنَّجَّاريَّة، لأنَّهم قالوا: إنَّه متكلِّم، يعني: خالق الكلام في اللَّوح المحفوظ، وفي هذا ثلاثة أقوال: قول أهل الحقِّ: إن القرآن غير مخلوق، وإنَّه كلامه تعالى قائم بذاته، لا ينقسم / ولا يتجزَّأ ولا يشبه شيئًا مِنْ كلام المخلوقين. والقول الثَّاني: ما ذكرنا عن هؤلاء المذكورين. والقول الثَّالث: إنَّ الواجب فيه الوقف، فلا يقال: إنَّه مخلوق ولا غير مخلوق. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((أن)).
[2] في (المطبوع): ((أو الحركات)).
[3] في (المطبوع): ((لله)).
[4] في (المطبوع): ((مقصود)).
[5] في (المطبوع): ((إثبات)).