الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى

          ░1▒ باب: ما جاء... إلى آخره>.
          قالَ الحافظُ: كذا للنَّسَفيِّ وحمَّاد بن شاكر، وعليه اقتصر الأكثر عن الفَرَبْريِّ، وزاد المُسْتَمْلي: <الرَّدُّ على الجَهْميَّة وغيرهم> ووقع لابن بطَّالٍ وابن التِّين: <كتاب الرَّدِّ على الجهميَّة(1) وغيرهم التَّوحيدَ> وضبطوا <التَّوحيدَ> بالنَّصب على المفعوليَّة، وظاهره معترَض، لأنَّ الجَهْميَّة وغيرهم مِنَ المبتدعة لم يردُّوا التَّوحيد، وإنَّما اختلفوا في تفسيره، وحجج الباب ظاهرة في ذلك. انتهى.
          ثمَّ قالَ الحافظُ: قالَ الكَرْمانيُّ: (الجَهْميَّة) فرقة مِنَ المبتدِعة ينتسبون إلى جَهْم بن صفوان، مقدَّم الطَّائفة القائلة ألَّا قدرة للعبد أصلًا، وهم الجَبْريَّة. /
          قالَ الحافظُ: وليس الَّذِي أنكروه على الجَهْميَّة مذهب الجَبْر خاصَّة، وإنَّما الَّذِي أطبق السَّلف على ذمِّهِم بسببه إنكار الصِّفات، حَتَّى قالوا: أن(2) القرآن ليس كلامَ الله وإنَّه مخلوق.
          وقد ذكر أبو منصور عبد القاهر في كتابه «الفَرْق بين الفِرَق»: أنَّ رؤوس المبتدعة أربعة إلى أن قال: و الجَهْميَّة أتباع جَهْم بن صفوان الَّذِي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وقال: لا فِعْلَ لأحدٍ غير الله تعالى، وإنَّما يُنسب الفعل إلى العبد مجازًا، وزعم أنَّ عِلم الله تعالى حادث، وامتنع مِنْ وصف الله تعالى بأنَّه شيء أو حيٌّ أو عالِم أو مُريد، حَتَّى قال: لا أصفُه بوصف يجوز إطلاقه على غيره، قال: وأصفه بأنَّه خالق ومحيي ومميت وموحَّد_بفتح المهملة الثَّقيلة_ لأنَّ هذه الأوصاف خاصَّة به، وزعم أنَّ كلام الله حادثٌ، ولم يسمِّ اللهَ متكلِّمًا.
          قال البخاريُّ في كتاب بدء خلق أفعال العباد:(3) بلغني أنَّ جَهْمًا كان يأخذ عن الجَعْد بن درهم، وكان خالد القَسْريُّ وهو أمير العراق خطب فقال: إنِّي مُضَحٍّ بالجَعْد، لأنَّه زعم أنَّ الله لم يتَّخذ إبراهيم خليلًا ولم يكلِّم موسى تكليمًا، وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك، وقتلُ جَهْم كان بعد ذلك بمدَّة، وأسند أبو القاسم اللَّالَكائيُّ في «كتاب السُّنَّة» له: أنَّ قتل جَهْم كان في سنة اثنتين وثلاثين ومئة، والمعتمد ما ذكره الطَّبَريُّ أنَّه كان في سنة ثمان وعشرين، وذكر ابن أبي حاتم أنَّ قصَّة جهم كانت سنة ثلاثين ومئة، ونقل البخاريُّ عن محمَّد بن مقاتل قال: قال عبد الله بن المبارك:
ولا أَقُولُ بِقَوْلِ الجَهْمِ إنَّ لَهُ                     قَوْلًا يُضَارِعُ قَوْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانًا
          وعن ابن المبارك: إنَّا لنحكي كلام اليهود والنَّصارى، ونستعظم أن نحكي قول جَهْم. وعن عبد الله بن شوذب قال: تركَ جَهْمٌ الصَّلاة أربعين يومًا على وجه الشَّكِّ، وأخرج ابن أبي حاتم في «كتاب الردِّ على الجَهْميَّة» مِنْ طريق خلف بن سليمان البَلْخيِّ قال: كان جَهْم مِنْ أهل الكوفة وكان فصيحًا، ولم يكن له نفاذ في الحلم(4) فلقيه قوم مِنَ الزِّنادقة فقالوا له: صفْ لنا ربَّك الَّذِي تعبده، فدخل البيت لا يخرج مدَّة ثمَّ خرج، فقال: هذا هو(5) الهواء مع كلِّ شيء. انتهى.
          وأيضًا نُقِلَ عنه أنَّه قال: إنَّ أسماء الله تعالى مخلوقة، لأنَّ الاسم غير المسمَّى. وقال: لو قلت: إنَّ لله تسعة وتسعين اسمًا لعبدت تسعة وتسعين إلهًا، كما سيأتي في (باب: إنَّ لله مئة اسم...) إلى آخره.
          قوله: (وغيرهم) قالَ الحافظُ: والمراد بقوله: (وغيرهم) القَدَريَّة، وأمَّا الخوارج فتقدَّم ما يتعلَّق بهم في كتاب الفتن، وكذا الرَّافضة تقدَّم ما يتعلَّق بهم في كتاب الأحكام، وهؤلاء الفرق الأربع هم رؤوس البِدعة، وقال أيضًا: قالَ ابنُ حزم في «كتاب المِلَل والنِّحَل»: فِرَقُ المُقِرِّين بملَّة الإسلام خمس: أهل السُّنَّة، ثمَّ المعتزلة ومنهم القَدَريَّة، ثمَّ المُرْجِئة، ومنهم الجَهْميَّة والكراميَّة، ثمَّ الرَّافضة ومنهم الشِّيعة، ثمَّ الخوارج ومنهم الأزارقة والإباضيَّة، ثمَّ افترقوا فِرقًا كثيرة، إلى أن قال: وفي مقالاتهم ما يخالف أهل السُّنَّة الخلافَ البعيدَ والقريبَ، فأقربُ فرق المرجئة مَنْ قال: الإيمان التَّصديق بالقلب واللِّسان فقط، وليست العبادة مِنَ الإيمان، وأبعدُهم الجَهْميَّة القائلون بأنَّ الإيمان عقدٌ بالقلب فقط وإنْ أظهرَ الكفرَ والتَّثليث بلسانه وعبد الوثن مِنْ غير تقية. انتهى.
          وكتبَ الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع»: ثمَّ إنَّ المقصود بالرَّدِّ هاهنا(6) ليس هو طائفة مخصوصة مِنْ أهل البدع، بل كلُّ مَنْ أدَّى إليه فكر المؤلِّف وقت ذكر الحديث، فكنْ على ذُكْر مِنْ ذلك. انتهى.
          قوله: (التَّوحيد) كتبَ الشَّيخ في «اللَّامع»: أي: هذا بيان التَّوحيد، فإنَّ الكتاب لمَّا كان وضعُه للرَّدِّ عليهم / وهم أنكروا صفاته تبارك وتعالى، وأثبتوا للخلق قوَّة الخلق دون الاكتساب فقط، كما هو مسلك أهل السُّنَّة والجماعة، أراد أن يردَّ على هؤلاء زعمهم الباطل. انتهى.
          وفي «تقرير مولانا محمَّد حسن المكِّيِّ»: قوله: (التَّوحيدَ) بالنَّصب ظرفٌ للرَّدِّ، معناه كتابُ الرَّدِّ عليهم في التَّوحيد، أي: في باب التَّوحيد بإثبات الصِّفات له تعالى الَّتي أنكرها الجَهْميَّة. انتهى.
          قلت: وعلى هذا لا يرد ما أورد الحافظ كما تقدَّم مِنْ قولِه: وظاهره(7) معترض... إلى آخره، فللَّه درُّ الشَّيخ! قُدِّس سرُّه. وأورد العلَّامة العينيُّ على قول الحافظ بقوله: لا اعتراض عليها فإنَّ مِنَ الجَهْميَّة طائفة يروون(8) التَّوحيد. انتهى.
          وقال صاحب «الفيض»: (التَّوحيد) بالنَّصب والرَّفع، أمَّا النَّصب فبناءً على أنَّه مفعول للرَّدِّ، أي: هذا كتاب في الرَّدِّ على توحيدهم الَّذِي اعتقدوه، وأمَّا الرَّفع فلعطفه على كتاب الرَّدِّ، أي: الرَّدُّ عليه هو التَّوحيد. انتهى.
          وقد تقدَّم في بيان اختلاف النُّسخ أنَّ الواقع في أكثر النُّسخ مِنَ المتون والشُّروح بلفظ <كتاب التَّوحيد> فقال صاحب «الخير الجاري» كما في «هامش النُّسخة الهنديَّة»: وعنوان الكتاب بالتَّوحيد بمنزلة عنوان المتكلِّمين بالإلهيَّات، فكما يذكرون فيها مباحث الذَّات والصِّفات والنُّبوَّات وخلق الأعمال والحشر والميزان فكذا ذكر البخاريُّ في هذا الكتاب المعنون بكتاب التَّوحيد الأمور المذكورة، وليكن هذا عندك أصلًا حَتَّى لا تحتاج في كلِّ مقام إلى تَكَلُّف مال إليه الشُّرَّاح. انتهى.
          فائدة: وللإمام ابن أبي حاتم أيضًا تأليف باسم «كتاب الرَّدِّ على الجَهْميَّة»، وقد أكثر الحافظ في الأخذ عنه في شرح التَّراجم الآتية.
          (باب: مَا جَاءَ في دُعَاء النَّبيِّ صلعم أُمَّتَه إلى تَوْحِيد الله تَبَارَكَ وتَعَالَى(9)) [إلى آخره].
          قالَ القَسْطَلَّانيُّ: وهو الشَّهادة بأنَّ الله واحد، ومعنى أنَّه تعالى واحد كما قاله بعضهم نفيُ التَّقسيم لذاته، ونفي التَّشبيه عن حقِّه وصفاته، ونفي الشَّريك معه في أفعاله ومصنوعاته، فلا تشبه ذاتَه الذَّواتُ ولا صفتَه الصِّفاتُ، ولا فعل لغيره(10) حَتَّى يكون شريكًا [له] في فعله أو عديلًا له، وهذا هو الَّذِي تضمَّنته سورة الإخلاص مِنْ كونه واحدًا صمدًا إلى آخرها، فالحقُّ سبحانه وتعالى مخالف لمخلوقاته كلِّها مخالفةً مطلقة. انتهى.
          قلت: وقد تقدَّم في شرح قوله: (التَّوحيدَ)_بالنَّصب_ أنَّ المقصود الرَّدُّ على توحيد المبتدعة لا ردُّ التَّوحيد مطلقًا، ومِنْ هاهنا شرع المصنِّف في الرَّدِّ على تلك الفرق الباطلة المذكورة في صدر الكتاب، فابتدأ بإثبات التَّوحيد الَّذِي يقول به أهل السُّنَّة والجماعة على رغم أنف هؤلاء الفِرق الباطلة، وأيضًا يخطر ببالي في الغرض مِنَ التَّرجمةِ أنَّ الإمام البخاريَّ ترجم بذلك دفعًا لِما يُتوهَّم ممَّا تقدَّم مِنْ لفظ (الرَّدِّ على الجَهْميَّة التَّوحيدَ) أنَّه أثبت في هذا الكتاب ردَّ التَّوحيد_والعياذ بالله_ فأتى بهذه التَّرجمة دفعًا لهذا الإيهام الموحِش.


[1] في (المطبوع): ((كتاب رد الجهمية)).
[2] في (المطبوع): ((إن)).
[3] في (المطبوع): ((قال البخاري في «كتاب خلق أفعال العباد»)).
[4] في (المطبوع): ((العلم)).
[5] في (المطبوع): ((فقال: هو هذا)).
[6] في (المطبوع): ((هنا)).
[7] في (المطبوع): ((ظاهره)) بلا واو.
[8] في (المطبوع): ((يردون)).
[9] قوله: ((تبارك وتعالى)) ليس في (المطبوع).
[10] في (المطبوع): ((لغير)).