الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها من الخلائق

          ░27▒ (باب: ما جَاء في تَخْليقِ السَّمَوات والأَرْض...) إلى آخره
          هذا هو الباب الثَّالث مِنَ الأبوابِ الثَّلاثة المتعلِّقة بالخلق الَّتي تقدَّم ذكرها، والغرض مِنْ هذا الباب هو مسألة التكوين.
          قالَ الحافظُ: قوله: (وهو فعل الرَّبِّ وأمره...) إلى آخره، المراد بالأمر هاهنا(1) قوله: {كُنْ}، والأمر يطلق بإزاء معان منها صيغة أفعل، ومنها الصِّفة والشَّأن، والأوَّل المراد هاهنا(2).
          قوله: (وهو الخالق المكوِّن غير مخلوق) المكوِّن_بتشديد الواو المكسورة_ لم يرد في الأسماء الحسنى، ولكن ورد معناه (وهو المصوِّر). انتهى.
          قالَ القَسْطَلَّانيُّ: واختُلف في التَّكوين هل هو صفةُ فعلٍ قديمةٌ أو حادثةٌ؟ فقال أبو حنيفة وغيره مِنَ السَّلفِ: قديمة، وقال الأشعريُّ في آخرين: حادثة لئلَّا يلزم أن يكون المخلوق قديمًا، وأجاب الأوَّل بأنَّه يوجد في الأزل صفةُ الخلق ولا مخلوق، وأجاب الأشعريُّ بأنَّه لا يكون خلقٌ ولا مخلوق، كما لا يكون ضارب ولا مضروب فألزموه بحدوث صفات، فيلزم حلول الحوادث بالله تعالى، فأجاب بأنَّ هذه الصِّفات لا تحدث في الذَّات شيئًا جديدًا، فتعقَّبوه بأنَّه يلزم ألَّا يُسمَّى في الأزل خالقًا ولا رازقًا، وكلام الله تعالى قديم، وقد ثبت فيه أنَّه الخالق الرَّزَّاق،(3) فانفصل بعض الأشعريَّة بأنَّ إطلاق ذلك إنَّما هو لطريق(4) المجاز، وليس المراد بعدم التَّسمية عدمها بطريق الحقيقة، ولم يرتضِ بعضهم هذا / بل قال: هو قول منقول عن الأشعريِّ نفسه أنَّ الأسامي جاريةٌ مَجرى الأعلام،(5) والعلم ليس بحقيقة ولا مَجاز في اللُّغة، وأمَّا في الشَّرع فلفظ الخالق والرَّازق صادقٌ عليه تعالى بالحقيقة الشَّرعيَّة، والبحث إنَّما هو فيها لا في الحقيقة اللُّغويَّة، فألزموه بتجويز إطلاق اسم الفاعل على مَنْ لم يقم به الفعل، فأجاب بأنَّ الإطلاق هاهنا شرعيٌّ لا لغويٌّ.
          قالَ الحافظُ ابن حجر: وتصرُّف البخاري في هذا الموضع يقتضي موافقة [القول] الأوَّل، والصَّائر إليه يَسلم مِنَ الوقوع في مسألة وقوع حوادث لا أوَّل لها، وبالله التَّوفيق.
          وسقط لأبي ذرٍّ قوله: مِنْ قولِه(6): (هو المكوِّن) وسقط مِنْ بعض النُّسخ قوله: (وفعله) قالَ الكَرْمانيُّ: وهو أولى ليصحَّ لفظ غير مخلوق. قال في «فتح الباري»: سياق المؤلِّف يقتضي التَّفرقة بين الفعل وما يَنشأ عن الفعل، فالأوَّل مِنْ صفات الفاعل، والباري غير مخلوق، فصفاته غير مخلوقة، وأمَّا مفعوله وهو ما ينشأ عن فعله فهو مخلوق، ومِنْ ثمَّ عقَّبه بقوله: (وما كان بفعله وأمره...) إلى آخره.
          وقال المصنِّف في كتابه «خلق أفعال العباد»: واختلف النَّاس في الفاعل والمفعول، فقالت القَدريَّة: الأفاعيل كلُّها مِنَ البشر، وقالت الجَبْريَّة: كلُّها من الله تعالى، وقالت الجَهْميَّة: الفعل والمفعول واحد، لذلك(7) قالوا: كن مخلوق، وقال السَّلف: التَّخليق فعلُ الله، وأفاعيلنا مخلوقة، ففعلُ الله صفةُ الله، والمفعول مَنْ سِواه مِنَ المخلوقات. انتهى.
          قلت: وعُلم مِنْ ذلك الفرقُ بين هذه التَّرجمة وبين ما تقدَّم، كما سبق إليه الإشارة، وأنَّ هذه التَّرجمة في هذا المعنى موافق لقول أبي حنيفة، كما جزم به الحافظ وتبعه القَسْطَلَّانيُّ، وأمَّا ابن بطَّالٍ فقال: غرضُه بيان أنَّ جميع السَّماوات والأرض وما بينهما مخلوق لقيام دلائل الحدوث عليها، ولقيام البرهان على أنَّه لا خالق غيرُ الله، وبطلان قول مَنْ يقول: إنَّ الطَّبائع خالقة أو الأفلاك أو النُّور أو الظُّلمة والعرش،(8) وفسدت جميع هذه الأقاويل لقيام الدَّليل على حدوث ذلك كلِّه... إلى آخر ما بسط.
          وفي «تقرير المكِّيِّ»: قوله: (باب: ما جاء في تخليق...) إلى آخره، تمَّت الصِّفات، وهذا إثبات أنَّ العالَم مخلوقٌ. انتهى.
          وذكر في «هامش اللَّامع» شيء مِنَ النُّقول مِنْ كلام الشَّيخ ابن تيمية، فارجع إليه.
          وفي «فيض الباري»: اعلم أنَّ المصنِّف أشار في تلك التَّرجمة إلى أمرين: الأوَّل: إلى إثبات صفة التَّكوين، القائل بها علماؤنا الماتُريديِّة، حَتَّى صرَّح به الحافظ مع أنَّه ممَّن لا يُرجى منه أن يتكلَّم بكلمة يكون فيها نفعٌ للحنفيَّة، وأنكرها الأشاعرة، فالتَّفصيل: أنَّ الصِّفات عند الأشاعرة سبعٌ، والله تعالى مع صفاته السَّبع قديمٌ إلى أن قال: وزاد الماتُريديَّة على هذه السَّبع صفةً ثامنة سمَّوها بالتَّكوين... إلى آخر ما ذكر.
          ثمَّ قالَ: وأمَّا الثَّاني: فهو تأسيس للجواب عمَّا أورد عليه في مسألة كلام الباري تعالى، وهذه هي المسألة الَّتي ابتُلي بها البخاريُّ، وقاسى فيها المصائب، فترجم أوَّلًا ترجمةً طويلةً جامعةً كالباب، ثمَّ ترجم تراجم أخرى في هذا المعنى كالفصول له، كما كان فعل في كتاب الإيمان حيث ترجم أوَّلًا ترجمة مبسوطةً مفصَّلةً، ثمَّ ترجم بعدها تراجم كالفصول لها... إلى آخر ما ذكر شيئًا مِنَ الكلامِ على مسألة خلق القرآن.


[1] في (المطبوع): ((هنا)).
[2] في (المطبوع): ((هنا)).
[3] في (المطبوع): ((الرازق)).
[4] في (المطبوع): ((بطريق)).
[5] في (المطبوع): ((الإعلام)).
[6] قوله: ((من قوله)) ليس في (المطبوع).
[7] في (المطبوع): ((ولذلك)).
[8] في (المطبوع): ((أو العرش)).