شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الحياء في العلم

          ░50▒ باب الْحَيَاء في الْعِلْمِ.
          وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلا مُسْتَكْبِرٌ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأنْصَارِ، لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ في الدِّينِ.
          فيه: أُمُّ سَلَمَةَ، جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إلى رَسُولِ اللهِ صلعم(1) فَقَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ على الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ(2) إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلعم(3): إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَجْهَهَا وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟). [خ¦130]
          وفيه: ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم(4) قَالَ: (إنَّ(5) مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَة لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا هي مثلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَحَدَّثْتُ أبي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي، فَقَالَ: لأنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لي كَذَا وَكَذَا). [خ¦131]
          قال المؤلف: إنما أراد البخاري بهذا الباب ليبين أن الحياء المانع من طلب العلم مذموم ولذلك بدأ بقول مجاهد وعائشة، وأما إذا كان الحياء على جهة التوقير والإجلال فهو حسن كما فعلت أم سلمة حين غطت وجهها.
          وقولها: (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) فإن الاستحياء من الله ╡(6) غير الاستحياء من المخلوقين، وهو من الله تعالى الترك، وكذا(7) قال أهل التفسير في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً(8)}[البقرة:26]، بمعنى لا يترك أن يضرب مثلًا، وإنما قالوا ذلك لأن الحياء(9) هو الانقباض بتغيير(10) الأحوال وحدوث الحوادث فيمن يتغير به لا يجوز على الله ╡(11)، وقولها(12): (لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) يقتضي أن الحياء لا يمنع من طلب الحقائق، وفيه أن المرأة تحتلم غير أن ذلك نادر في النساء ولذلك أنكرته أم سلمة، وقوله: (تَرِبَتْ يَمِينُكِ) هي كلمة تقولها العرب ولا تريد وقوع الفقر فيمن تخاطبه بها إذا لم يكن أهلًا لذلك كما يقول: قاتله الله ما أشعره، وهو(13) لا يريد(14) قتلة الله، وسيأتي تفسيرها لأهل اللغة في كتاب الأدب إن شاء الله تعالى(15)، وقوله: (فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا) يعني(16) إذا غلب ماء المرأة ماء الرجل أشبهها الولد، وكذلك إذا غلب ماء الرجل أشبهه الولد، ومن كان منه إنزال الماء عند الجماع أمكن منه إنزال الماء عند الاحتلام.
          قال المُهَلَّب: في تمني عمر ☺ أن يجاوب ابنه النبي صلعم بما وقع في نفسه فيه من الفقه أن الرجل مباح له الحرصُ على ظهور ابنه في العلم على الشيوخ وسرورُه بذلك، وقيل: إنما تمنى له(17) عمر ☺(18) ذلك رجاء أن يسر النبي صلعم(19) بإصابته فيدعو له فينفعه الله بدعائه، وقد كان عُمَر بن الخطاب / يسأل ابن عباس وهو صغير مع شيوخ الصحابة، وذكر ابن سلام أن الحطيئة أتى مجلس عُمَر بن الخطاب فنظر إلى ابن عباس قد قرع الناس(20) بلسانه فقال: من هذا الذي نزل عن القوم في سنه ومدته وتقدمهم في قوله وعلمه؟ وقال(21) العلماء(22): العالم كبيرٌ وإن كان حدثًا والجاهل صغيرٌ وإن كان شيخًا، وفيه أن الابن الموفَّق العالِمَ أفضلُ مكاسب الدنيا لقوله: لأن تكون قلتها أحبُّ إلي من كذا وكذا، وفي سماع أشهب عن(23) مالك أنه سئل عن المصلي لله(24) يقع في نفسه أنه يُحِبُّ أن يُعلمَ ويُحِبُّ ويحبُّ(25) أن يُلقى في طريق المسجد ويكره أن يُلقى في طريق غيره، فقال: إذا كان أول فعله لله فلا أرى بذلك بأسًا، وإن المرء ليحب أن يكون صالحًا، وإن هذا ليكون من الشيطان يَتَصَدَّقُ(26) فيقول: إنك لتُحِبُّ أن تُعلمَ ليمنعَهُ ذلك، وهذا أمر يكون في القلب لا يُملك، فإذا كان أصله لله لم أر بذلك بأسًا، قد قال النبي صلعم(27): ((ما شجرة لا يسقط ورقها؟)) فقال(28) ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، فقال(29) عمر: لأن تكون قلتها أحب إليَّ من كذا وكذا، وقال الله ╡: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}[طه:39]وقال: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}[الشعراء:84].


[1] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((من غسل)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((قال ◙)).
[4] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((إن)) زيادة من (م) و (ص).
[6] قوله: ((╡)) ليس في (ص).
[7] في (م): ((وكذلك)).
[8] قوله ((ما بعوضة)) ليس في (م).
[9] زاد في (م): ((الذي)).
[10] في (م) و (ص): ((بتغير)).
[11] قوله: ((╡)) ليس في (ص).
[12] في (ص): ((وقوله)).
[13] في (م): ((وهي)).
[14] في (ص): ((وهي لا تريد)).
[15] قوله: ((تعالى)) ليس في (ص).
[16] زاد في (م): ((أنه)).
[17] قوله ((له)) ليس في (م).
[18] قوله: ((☺)) ليس في (ص).
[19] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[20] في (م): ((قد فَرَعَ القومَ)).
[21] في (ص): ((وقالت)).
[22] في (م): ((الحكماء)).
[23] في (م): ((من)).
[24] زاد في (م): ((ثم)).
[25] كذا في (ز)، وفي (م) و (ص): ((يعلم ويحب أن)).
[26] في (ز): ((فصدق))، وفي (ص): ((مصدق)) والمثبت من (م).
[27] في (ص): ((قد قال ◙)).
[28] في (ص): ((قال)).
[29] زاد في (م): ((له)).