شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل العلم

          ░1▒ قَوْلُ اللهِ(1) تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11]وَقَوْلُهُ تَعَالَى {رَبِّ(2) زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]
          قال المؤلف: جاء في كثير من الآثار أن درجات العلماء تتلو درجات الأنبياء ودرجات أصحابهم، والعلماء ورثة الأنبياء، وإنما ورَّثوا العلم وبيَّنوه للأمة وذَبُّوا عنه وحمَوه من تحريف الجاهلين وانتحال المبطلين، وروى ابن وهب عن مالك قال: سمعت زيد بن أسلم يقول في قوله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء}[يوسف:76]قال: بالعلم، وذكر عن الأوزاعي قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: يا أبا عبد الرحمن أي الأعمال أفضل؟ قال: العلم، ثم سأله أي الأعمال أفضل؟ قال: العلم، قال:(3) أسألك(4) عن أفضل الأعمال وأنت تقول: العلم؟ قال: ويحك إن مع العلم بالله ينفعك قليل العمل وكثيره، ومع الجهل بالله لا ينفعك قليل العمل ولا كثيره، وقال ابن عيينة في قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}[مريم:31]، قال: معلم(5) للخير.
          وفي فضل العلم آثار كثيرة، ومن أحسنها ما حدثني يونس بن عبد الله قال: حدثنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله قال: حدثنا سعيد بن فَحْلُون قال: حدثنا أبو المعلَّى عبد الأعلى بن معلى قال: حدثنا عثمان بن أيوب قال: حدثنا يحيى بن يحيى قال: أول ما حدثني مالك بن أنس(6) حين أتيته طالبًا لما ألهمني الله إليه في أول يوم جلست إليه قال لي: اسمك؟ قلت له: أكرمك الله يحيى، وكنت أحدثَ أصحابي سنًّا، فقال لي: يا يحيى اللهَ اللهَ عليك بالجدِّ في هذا الأمر، وسأحدثك في ذلك بحديث يرغبك فيه ويزهدك في غيره، قال: قدم المدينة غلام من أهل الشام بحداثة سنك، فكان معنا يجتهد ويطلب(7) حتى نزل به الموت، فلقد رأيت على جنازته شيئًا لم أر مثله على أحد من أهل بلدنا لا طالب ولا عالم(8)، فرأيت جميع العلماء يزدحمون على نعشه، فلما رأى ذلك الأمير أمسك عن الصلاة وقال: قدموا منكم من أحببتم، فقَدم أهل العلم ربيعةَ، ثم نهض به إلى قبره، قال مالك: فألحده في قبره ربيعة وزيد بن أسلم ويحيى بن سعيد وابن شهاب، وأقرب الناس إليهم محمد بن المنكدر(9) وصفوان بن سُلَيم وأبو حازم وأشباههم، / وبنى اللَّبِن على لحده ربيعة، وهؤلاء كلهم يناولوه اللَّبِن، قال مالك: فلما كان اليوم الثالث من يوم دفنه رآه رجل من خيار أهل بلدنا في أحسن صورة غلامٍ أمردَ(10) عليه بياض، متعممٍ بعمامة خضراء وتحته فرس أشهب نازل من السماء، فكأنه كان يأتيه(11) قاصدًا ويسلم عليه ويقول: هذا بَلَّغني إليه العلم، فقال له الرجل: وما الذي بلغك إليه؟ فقال(12): أعطاني الله بكل باب تعلمته من العلم درجة في الجنة، فلم تبلغ بي الدرجات إلى درجة أهل العلم، فقال الله تعالى: زيدوا ورثة أنبيائي، فقد حتّمت على نفسي أنه من مات وهو عالم سنتي أو سنة أنبيائي أو طالب لذلك أن أجمعهم في درجة واحدة، فأعطاني ربي حتى بلغت إلى درجة أهل العلم، فليس(13) بيني وبين رسول الله صلعم إلا درجتان(14): درجة هو فيها جالس وحوله النبيون كلهم، ودرجة فيها جميع أصحابه وجميع أصحاب النبيين الذين اتبعوهم، ودرجة من بعدهم فيها جميع أهل العلم وطلبته، فسَيَّرني حتى استوسَطْتُهم فقالوا لي: مرحبًا مرحبًا، سوى ما لي عند الله من المزيد، فقال له الرجل: وما لك عند الله من المزيد؟ فقال(15): وعدني(16) أن يحشر النبيين كلهم كما رأيتهم في زمرة واحدة فيقول: يا معشر العلماء هذه جنتي قد أبحتها لكم، وهذا رضواني قد رضيت عنكم، فلا تدخلوا الجنة حتى تتمنوا وتشفعوا، فأعطيكم ما شئتم وأشفعكم فيمن استشفعتم له ليرى عبادي كرامتكم(17) ومنزلتكم عندي، فلما أصبح الرجل حدَّث أهل العلم وانتشر خبره بالمدينة، قال مالك: كان بالمدينة أقوام بدؤوا معنا في طلب هذا الأمر ثم كفوا عنه حتى سمعوا هذا الحديث، فلقد رجعوا إليه وأخذوا بالحزم(18)، وهم اليوم من علماء بلدنا، اللهَ اللهَ يا يحيى جُدَّ في هذا الأمر.
          قال المؤلف: غير أن فضل العلم إنما هو لمن عمل(19) به ونوى(20) بطلبه وجه الله تعالى، ذكر مالك أن عبد الله بن سلام قال لكعب: مَن أرباب العلم؟ قال: هم أهله الذين يعملون بعلمهم(21)، قال: صدقت، قال: فما ينفي العلمَ من صدور العلماء بعد إذ علموه؟ قال: الطمعُ، وعن ابن عيينة عمن حدثه(22) عن عبد الله بن الْمِسْوَرِ قال: ((جاء رجل إلى النبي صلعم، قال: أتيتك لتعلمني من غرائب العلم، فقال له النبي صلعم: ما صنعت(23) في رأس العلم؟ قال: وما رأس العلم؟ قال: هل عرفت الرب؟ قال: نعم، قال: فما صنعت في حقه؟ قال: ما شاء الله، قال: هل عرفت الموت؟ قال: نعم، قال: فما أعددت له؟ قال: ما شاء الله، قال: فاذهب فأَحْكِمْ ما هنالك ثم تعال أعلِّمْكَ من غرائب العلم)) وعن الحسن البصري عن النبي صلعم قال: ((العلم علمان: علم على اللسان فتلك حجة الله على ابن آدم، وعلم في القلب فذلك العلم النافع)) وذكر ابن وهب عن أبي الدرداء أنه كان يقول: لست أخاف أن يقال لي: يا عُوَيْمِر ماذا علمت؟ ولكن أخاف أن يقال لي: يا عُوَيْمِر ماذا عملت فيما علمت؟ ولم يؤت الله أحدًا علمًا في الدنيا إلا سأله يوم القيامة.
          ومن تعلم الحديث(24) ليصرف به وجوه الرجال إليه صرف الله وجهه يوم القيامة إلى النار، وقال مسروق: بحَسْبِ المرء من العلم(25) أن يخشى الله، وبحسبه من الجهل ألا يخشى الله. وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114]قال قَتادة: إن الشيطان لن(26) يدع أحدكم حتى يأتيه من كل وجه، حتى يأتيه من باب العلم فيقول: ما تصنع بطلب العلم؟ ليتك تعمل بما قد سمعت، ولو كان أحد مكتفيًا لاكتفى موسى ◙ حيث يقول: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[الكهف:66]وذكر الطبري(27) عن ابن عباس: ((أن موسى ◙ سأل ربه ╡ فقال: أي ربِّ أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تقربُه(28) إلى هدى أو تردُّه عن رَدًى)).


[1] في (ص): ((قوله)).
[2] في (م): ((وقل ربِّ)).
[3] زاد في (م): ((أنا)).
[4] في (م) و (ص): ((أنا أسألك)).
[5] في (ص): ((معلما)).
[6] في (م) حاشية: ((لم يُذكر في الميزان ولا في الكاشف أحد من أهل هذا الإسناد من المصنف إلى يحيى بن يحيى)).
[7] في (م): ((يطلب ويجتهد)).
[8] في (م): ((إلا طالب أو عالم)).
[9] في (ز): ((المنذر)) والمثبت من (م) و (ص).
[10] في (ز): ((أسرد)) والمثبت من (م) و (ص).
[11] في (م): ((من السماء فكان يأتيه)).
[12] في (م): ((فيقول)).
[13] في (ص): ((وليس)).
[14] في (م): ((درجتين)).
[15] في (م): ((قال)).
[16] زاد في (م): ((ربي)).
[17] زاد في (م): ((عليَّ)).
[18] في (م): ((بالجدِّ)).
[19] في (م): ((علم)).
[20] في (ص): ((أو نوى)).
[21] في (م): ((مَن أرباب العلم الذين هم أهله؟ قال الذين يعملون بعلمهم)).
[22] قوله ((عمن حدثه)) ليس في (م).
[23] في (م): ((وماذا صنعت)).
[24] في (م): ((العلم)).
[25] في (ز): ((بحسب المؤمن العلم)) والمثبت من (م) و (ص).
[26] في (ز) و (ص): ((لم)) والمثبت من (م).
[27] في المطبوع: ((الطبراني)).
[28] في (م): ((تهديه)) ونبه في (ص) إليها في نسخة.