شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب القراءة والعرض على المحدث

          ░6▒ باب الْقِرَاءَة وَالْعَرْض على الْمُحَدِّثِ.
          وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ في الْقِرَاءَةِ على الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أنه قَالَ للنبي(1) صلعم: آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ؟ قَالَ: (نَعَمْ)، قَالَ: فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ على النبيِّ ◙، أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ على الْقَوْمِ فَيَقُولُونَ: أَشْهَدَنَا فُلانٌ، وَيُقْرَأُ على الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ الْقَارِئُ: أَقْرَأَنِي فُلانٌ، وَقَالَ سُفْيَان وَمَالِك: الْقِرَاءَةُ على الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ.
          فيه: أَنَس: (دَخَلَ رَجُلٌ على جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ في الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَال: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ _والنبي صلعم مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ_ فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأبْيَضُ الْمُتَّكِئُ. [خ¦63]
          فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ لَهُ النبي صلعم(2): قَدْ أَجَبْتُكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ للنبي صلعم(3): إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ في الْمَسْأَلَةِ فَلا تَجِدْ عَلَيَّ في نَفْسِكَ، قَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، قَالَ(4): أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللهُ أَرْسَلَكَ إلى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ قَالَ(5): اللَّهُمَّ نَعَمْ؛ قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ؛ قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ، آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ؛ قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ(6) آللهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ(7) الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا(8) على فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ(9) النبي صلعم: اللَّهُمَّ نَعَمْ؛ فَقَالَ(10) الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو(11) سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ).
          واختلف(12) العلماء في هذا الباب، فذهب الجمهور إلى أن القراءة على العالم وقراءته سواء في استباحة الرواية وجوازها، وهو قول مالك والكوفيين إلا أن مالكًا استحب القراءة على العالم، ذكر الدارقطني في كتاب «الرواة(13) » عن مالك عن محمد بن المحبَّر(14) بن علي الرُّعيني قال(15): لما قدم(16) هارون الرشيد(17) المدينة حضر مالك بن أنس، فسأله أن يسمع منه محمد الأمين(18) والمأمون، فبعثوا إلى مالك فلم يحضر، فبعث إليه أمير المؤمنين فقال: العلم يؤتَى أهله ويوقَّر(19)، فقال: صدق أبو عبد الله سيروا / إليه، فساروا إليه هم ومؤدبهم(20)، فسألوه أن يقرأ هو عليهم فأبى وقال: إن علماء هذا(21) البلد قالوا: إنما يُقرأ على العالم ويفتيهم مثل ما يُقرأ القرآن على المعلم ويَرُدُّ، سمعت ابن شهاب بحر العلماء يحكي عن سعيد وأبي سلمة وعروة والقاسم وسالم(22) أنهم كانوا يقرؤون على العلماء؛ وذكر الدارقطني عن كادح بن رحمة قال: قال مالك بن أنس: العرض خير من السماع وأثبت، وقالت طائفة: نقول في العرض والقراءة على العالم: أخبرنا ولا يجوز أن نقول: حدثنا، إلا فيما سمعت من لفظ العالم، وذهب قوم فيما قُرئ على العالم فأقرَّ به أن يقول فيه: قرئ على فلان ولا يقول: حدثنا ولا أخبرنا، ولا وجه لهذين القولين والقول الأول هو الصحيح لأن ضمام بن ثعلبة قرأ على النبي(23) صلعم وأخبر بذلك قومه فأجازوه، وما احتج به مالك في الصَّك يقرأ على القوم فيقولون أشهدنا حجةٌ قاطعة لأن الإشهاد أقوى حالات الإخبار، وكذلك القراءة على المقرئ.
          وفي حديث ضِمَام قبول خبر الواحد لأن قومه لم يقولوا له: لا نقبل خبرك عن النبي صلعم حتى يأتينا من طريق آخر، وفيه جواز إدخال البعير في المسجد وعقله فيه، وهو دليل على طهارة أبوال الإبل وأرواثها إذ لا(24) يُؤمن ذلك من البعير مدة كونه في المسجد، وفيه جواز تسمية الأَدْوَن للأعلى دون أن يكنيَه ويناديَه(25) بحِطَّة(26) إلا أن ذلك منسوخ في النبي(27) صلعم بقوله(28) تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا}[النور:63]قال أبو الزناد: وفيه جواز الاتكاء بين الناس في المجالس، وقال(29) غيره: وقولهم (هذا(30) الأبيض(31)) يجوز أن يُعرَّف الرجل بصفته من البياض والحمرة والطول والقصر، وقال أبو الزناد: وقوله (إني سائلك فمشدد عليك) فيه من الفقه أن يقدم الإنسان بين يدي حديثه مقدمة يعتذر فيها ليحسن موقع حديثه عند المحدث ويصبر له على ما يأتي منه، وهو من حسن التوصل.
          قال المُهَلَّب: وقوله (أسألك بربك) فيه جواز الاستحلاف على الخبر ليحكم باليقين، وقد قال علي ☺: ما حدثني أحد إلا استحلفته، فإذا حلف لي صدقته إلا أبو بكر ☺، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر؛ وقد جاء في كتاب الله تعالى الحلف على الخبر في ثلاثة مواضع: قال الله تعالى: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَربِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}[يونس:53]وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَربِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}[سبأ 3]، وقال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَربِّي لَتُبْعَثُنَّ}[التغابن:7]قال المؤلف: فوافق هذا الأعرابي مذهب عليِّ ☺ في تصديقه من حلف له على خبره، فكيف وقد(32) كان النبي صلعم عندهم في الجاهلية معروفًا بالصدق في أحاديث الناس، فلم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله ╡ كما قال هرقل لأبي سفيان وجعل ذلك من دلائل نبوته؛ فلذلك صَدَّقَهُ ضِمام.


[1] في (ص): ((الرسول)).
[2] في (ص): ((فقال له ◙)).
[3] قوله ((للنبي صلعم)) ليس في (م).
[4] في (م): ((فقال)).
[5] في (م): ((فقال)).
[6] قوله ((أنشدك بالله)) ليس في (م).
[7] قوله ((هذه)) ليس في (م).
[8] في (م): ((فتردَّها)).
[9] في (م) و (ص): ((قال)).
[10] في (ص): ((قال)).
[11] زاد في (م): ((بني)).
[12] في (م): ((اختلف)).
[13] في (ص): ((الرواية)).
[14] في (م) و (ص): ((المخبر)).
[15] قوله: ((قال)) ليس في (ص).
[16] زاد في (م): ((أمير المؤمنين)).
[17] قوله ((الرشيد)) ليس في (م).
[18] قوله ((الأمين)) ليس في (م).
[19] في (م): ((ويوقَّروا)).
[20] في (م): ((فصاروا إليه ومؤدبهم))، وفي (ص): ((هم ومؤدبهم)).
[21] في (م): ((إن علماء أهل هذه البلد)).
[22] زاد في (م): ((وغيرهم)).
[23] في (ص): ((الرسول)).
[24] في (م): ((لم)).
[25] في (م): ((أو يناديه)).
[26] في (م): ((بخطه)).
[27] في (ص): ((الرسول)).
[28] في (ص): ((لقوله)).
[29] في (م): ((قال)).
[30] في (م): ((هو)).
[31] زاد في (م): ((يدل أنه)).
[32] قوله ((قد)) ليس في (م).