شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا

          ░49▒ باب مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهةَ أَلا يَفْهَمُوا.
          وَقَالَ عَلِيٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ(1)، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟! [خ¦127]
          فيه: أَنَسُ، أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ لِمُعَاذِ _وهو رَدِيفُهُ على الرَّحْلِ_ فَقَالَ(2): (يَا مُعَاذَ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ _ثَلاثًا_ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلا حَرَّمَهُ اللهُ على النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُون(3)؟ قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا) فأَخْبَرَ(4) بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. [خ¦128]
          وفيه: أَنَس قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ لِمُعَاذِ(5): (مَنْ لَقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قَالَ: أَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: لا، أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلُوا). [خ¦129]
          قال المُهَلَّب: فيه أنه(6) يجب أن يُخَصَّ بالعلم قوم(7) لما فيهم من الضبط وصحة الفهم، ولا يبذل المعنى اللطيف(8) لمن لا يستأهله من الطلبة ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لتقصير فهمه كما فعل النبي صلعم(9)، وقد قال مالك بن أنس: من إذالة العالم أن يجيب كل من سأله، وإنما أراد ألا يوضع العلم إلا عند من يستحقه ويفهمه، وفيه: أن من عَلِمَ علمًا _والناس على غيره من أخذٍ بشدة أو ميلٍ إلى رخصة_ أن(10) عليه أن يودعه مستأهله ومن يظن أنه يضبطه كما فعل معاذ حين حدث به بعد أن نهاه النبي صلعم عن أن يخبر به خوف الاتكال، فأخبر به عند موته خشية أن يدركه الإثم في كتمانه.
          ومعنى قوله ◙(11): (حَرَّمَه اللهُ عَلَى النَّار) أي حرمه الله على(12) الخلود في النار لثبوت قوله ◙(13): ((أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة(14) خردل من إيمان)) ولإجماعهم أنه لا تسقط عنه مظالم العباد، هذا تأويل أهل السنة، والحديث عندهم على الخصوص، وهو خلاف مذهب الخوارج الذين يقولون بتخليد المؤمنين بذنوبهم في النار، وأما قوله ◙: ((من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة)) و((من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)) فروي عن السلف في تأويله ما ذكره الطبري قال: حدثنا محمد بن علي(15) بن الحسن بن شقيق قال: سمعت أبي يقول: أخبرنا(16) أبو حمزة عن الحسين بن عِمْرَان عن الزهري أنه سئل عن الحديث ((من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)) قال: حدثني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير أن ذلك كان قبل نزول الفرائض، وذكر أبو عبيد عن ابن أبي خيثمة قال: حدثنا أبي قال(17): حدثنا جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب قال: سأل هشام بن عبد الملك الزهري فقال: حدثنا بحديث النبي صلعم: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق)) فقال الزهري: أين يُذهب بك يا أمير المؤمنين؟ كان هذا قبل الأمر والنهي.
          وذكر الطبري، حدثنا ابن حميد، حدثنا حَكَّام(18) بن سَلْم(19) عن الحسن بن عَميرة قال قيل للحسن: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة؟ فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفريضتها دخل الجنة، وذكر أبو عبيد عن عطاء بن أبي رَبَاح أنه قيل له: إن في المسجد عُمَر بن ذر ومسلم النحات وسالم الأفطس يقولون: من زنى وسرق وقذف المحصنات وأكل الربا / وعمل بالمعاصي أنه مؤمن كإيمان البَرِّ التقي الذي لم يعص الله، فقال عطاء: أبلغهم ما حدثني به أبو هريرة أن النبي صلعم قال: ((لا يَقتل المؤمن حين يقتل وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) فذكرت ذلك لسالم الأفطس وأصحابه فقالوا: أين(20) حديث أبي الدرداء ((وإن زنى وإن سرق)) فذكرت ذلك لعطاء فقال: كان هذا ثم نزلت الحدود والأحكام بعد، وقد قال رسول الله صلعم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) و((لا يفتُك مؤمن)) وذكر البخاري حديث أبي الدرداء وحديث أبي ذر في كتاب الاستئذان في باب من أجاب بلبيك وسعديك، وذكر حديث أبي ذر أيضًا في كتاب اللباس في باب الثياب البيض، قال أبو ذر: قال النبي صلعم: ((ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق _ثلاث مرات_ وإن رغِم أنفُ أبي ذر)) وفسره البخاري قال(21): هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم وقال لا إله إلا الله غفر له، وقول البخاري إذا تاب يعني إذا تحلل من مظالم العباد وتاب من ذنوبه التي بينه وبين الله ╡.
          والتأثم إلقاء الإثم عن نفسه، وقد تقدم في كتاب بدء الوحي، وسيأتي ما للعلماء في معنى قوله ◙: ((لا يزني الزاني(22) وهو مؤمن)) في أول كتاب الحدود إن شاء الله تعالى(23).


[1] في (ص): ((يفهمون)).
[2] في (م): ((قال)).
[3] في (م): ((فيستبشروا)).
[4] في (م): ((وأخبر)).
[5] زاد في (م): ((ابن جبل)).
[6] زاد في (م): ((قد)).
[7] زاد في (ص): ((قومًا دون قوم)).
[8] في (م): ((وألا يزال المعنى الرفيع)).
[9] في (ص): ((كما فعل ◙)).
[10] في (ص): ((كان)).
[11] قوله: ((◙)) ليس في (ص).
[12] في (م): ((حرمه على)).
[13] قوله: ((◙)) ليس في (ص).
[14] زاد في (م): ((من)).
[15] قوله: ((ابن علي)) ليس في (ص).
[16] في (م): ((أخبره)).
[17] قوله ((أبي قال)) ليس في (م).
[18] في المطبوع: ((حماد)) وهو تصحيف.
[19] في (ز): ((سلمة)) والمثبت من (م).
[20] في (م) و (ص): ((وأين)).
[21] في (م): ((فقال)).
[22] زاد في (م): ((حين يزني)).
[23] قوله: ((تعالى)) ليس في (ص).