شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يستحب للعالم إذا سئل: أي الناس أعلم؟

          ░44▒ باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ أَن يَكِلُ الْعِلْمَ إلى اللهِ ╡.
          فيه: ابْن عَبَّاسٍ عن أبي بن كَعْبٍ قَالَ: (قَامَ مُوسَى النبي صلعم(1) خَطِيبًا في بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ(2): أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا في مِكْتَلٍ، فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَثَمَّ هُوَ، فَانْطَلَقَ معه بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلا حُوتًا في مِكْتَلٍ حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُؤُوسَهُمَا فَنَامَا، فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ في الْبَحْرِ سَرَبًا)(3). [خ¦122]
          قال المؤلف: روي عن أبي بن كعب أنه قال: أُعجب موسى بعلمه فعاقبه الله بما لقي مع الخضر، وكان ينبغي(4) أن يقول: الله أعْلَمُ أيُّ الناسِ أعلمُ؛ لأنه لم يُحِط علمًا بكل عالِمٍ في الدنيا، وقد قالت الملائكة: لا علم لنا إلا ما علمتنا، وسئل رسول الله صلعم(5) عن الروح وغيره، فقال: لا(6) أدري حتى أسأل الله ╡، وقد قال تعالى(7): {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}[الإسراء:36]فيجب على من سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم، وقد قال مالك ☼: جُنَّة العالم لا أدري، فإذا أخطأها أصيبت مقاتله، قال مالك: وكان الصِّدِّيق ☺ يُسأل فيقول: لا أدري، وأحدهم اليوم يأنف أن(8) يقول: لا أدري، فليس المتحرِّي(9) لحدود الإسلام كالذي يموج(10) ويلعب، وقال مالك: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من(11) بعده لا أدري حتى يكون أصلًا في أيديهم.
          وقوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا}[الكهف:61]إنما نَسِيَهُ يوشع فتى موسى ومتعلمه فأضيف النسيان إليهما جميعًا، والدليل على أن فتاهُ نسيَهُ قوله: {فإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ}[الكهف:63]كما قال الله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ}[الأنعام:130]وإنما الرسل من الإنس، وقوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشَدًا}[الكهف:66]لم يسأله موسى ◙(12) عن شيء من دينه لأن الأنبياء لا تجهل شيئًا من(13) دينها الذي تعبدت به أمتها، وإنما سأله عما لم يكن عنده علمه مما ذكر في السورة.
          قال المُهَلَّب: وقوله تعالى(14): {لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ}[الكهف:74]روي عن النبي صلعم(15) أنه قال: ((كان طبع الغلام كافرًا، ولو أدرك أبويه لأرهقهما / طغيانًا وكفرًا)) وهو معنى قوله: {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}[الكهف:80]فدل(16) أنه لو بلغ لكان كذلك، فإن قيل: فقد(17) روى البخاري عن ابن عباس أنه كان يقرأ: وكان أبواه مؤمنين وكان كافرًا، فأوجب له الكفر في الحال، فالجواب: أنه إنما سماه كافرًا لما(18) يؤول إليه أمره لو عاش، وهذا جائز في اللغة أن يسمى الشيء بما يؤول إليه، قال تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}[يوسف:36]وإنما يعصر العنب لا الخمر، ووجه استباحة القتل لا يعلمهُ إلا الله تعالى، ولله أن يميت من شاء من خلقه قبل البلوغ وبعده، ولا فرق بين قتله وموته(19)، كل ذلك لا اعتراض عليه فيه، لا يُسأل عما يفعل.
          قال المؤلف: وفي قصة الخضر أصل عظيم من أصول الدين، وذلك أن ما تعبَّدَ الله ╡(20) به خلقه من شريعته ودينه يجب أن يكون حجة على العقول ولا تكون العقول حجةً عليه، ألا ترى أن إنكار موسى ◙ على الخضر ☺(21) خرق السفينة وقتل الغلام كان صوابًا في الظاهر، وكان موسى ◙(22) غير ملوم في ذلك، فلما بَيَّن(23) الخضر ☺(24) وجه ذلك ومعناه صار الصواب الذي ظهر لموسى من إنكاره خطأ، وصار الخطأ الذي ظهر لموسى من فعل الخضر صوابًا، وهذا حجةٌ قاطعة في أنه يجب التسليمُ لله تعالى(25) في دينه ولرسوله ◙(26) في سنتِه وبيانِه لكتاب ربه واتهامُ العقول إذا قصرت عن إدراك وجه الحكمة في شيء من ذلك؛ فإن ذلك محنة من الله لعباده واختبار لهم ليتم البلوى عليهم، ولمخالفة هذا ضل أهل البدع حين حكَّموا عقولهم وَرَدُّوا إليها ما جهلوه من معاني القدَر وشبهه، وهذا خطأ منهم لأن عقول العباد لها نهاية وعلم الله ╡(27) لا نهاية له، قال الله ╡(28): {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}[البقرة:255]فما أخفاه عنهم(29) فهو سِرُّ الله الذي استأثر به، فلا يحل تعاطيه ولا يُكلَّف طلبه، فإن المصلحةَ للعباد في إخفائه منهم والحكمةَ في طَيِّه عنهم إلى يوم تُبلى السرائر، والله هو(30) الحكيم العليم، قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}[المؤمنون:71]وقوله: ({وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي})[الكهف:82]يدل أنه(31) فعله بوحي من الله تعالى(32) بذلك إليه(33)، ويشهد لهذا وجوهٌ من نفس القصة منها: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يقتل نفسًا لما يتوقع وقوعه منها بعد حين مما يوجب عليها القتل لأن الحدود لا تجب إلا بعد وقوعها، وأيضًا فإنه لا يقطع على فعل أحد قبل بلوغه(34) ولا يعلمه إلا الله لأن ذلك إخبار عن الغيب، وكذلك الإخبار عن أخذ الملك السفينة غصبًا، والإخبار أيضًا عن بنيانه الجدار من أجل الكنز الذي تحته ليكون سببًا إلى استخراج الغلامين له إذا احتاجا إليه مراعاة لصلاح أبيهما، وهذا كله لا يدرك إلا بوحي من الله ╡. وفي هذا الحديث أن الخضر أقام الجدار بيده، وفي كتاب الأنبياء قال سفيان: فأومأ بيده، وهذه آية عظيمة لا يقدر الناس على مثلها، وهي تشبه آية(35) الأنبياء، وهذا كله حجة لمن قال بنبوة الخضر، وذكر الطبري عن ابن عباس قال: فكان قول موسى في الجدار لنفسِهِ ولِطلبِ شيء من الدنيا، وكان قوله في السفينة والغلام لله ╡(36)، قال المُهَلَّب: وهو حجة لمن قال بنبوة الخضر.
          وفي هذا الحديث من الفقه(37) استخدام الصاحب لصاحبه ومتعلمه إذا كان أصغر منه، وفيه أن العالم قد يكرم بأن تقضى له حاجة أو يوهب له شيء، ويجوز له قبول ذلك لأن الخضر حُمِل بغير أجر، وهذا إذا لم يتعرض(38) لذلك، وفيه أنه يجوز للعالم والرجل الصالح أن يُعِيبَ شيئًا لغيره إذا علم أن لصاحبه في ذلك مصلحة، وأما قول أُبَي(39) لِنَوف: كذب عدو الله، فإنما خرج ذلك على طريق الغضب والإبلاغ في التقريع لأنه أراد بذلك خروجه عن ولاية الله ╡ وعن الدين، وألفاظ الغضب يؤتى بها على غير طريق الحقيقة في الأكثر، وكان نوف قاصًّا، وذكر سعيد بن جبير أن نوفًا ابنُ أخي كعب الأحبار.
          وقوله: (حملوهم(40) بِغَيرِ نَوْل) يريد بغير جُعْلٍ، والنَّوْل والنَّال والمنَالة كله الجُعْل، فأما النيل والنوال فإنهما العطية ابتداءً، يقال: رجل نالٌ إذا كان كثير النوال، ورجلان نالان وقوم أنوال كما قالوا: رجل مال أي كثير المال، وكبش صاف كثير الصوف، ويقال: نُلت الرجل أنوله نولًا ونِلت الشيء أناله نيلًا عن الخطابي، / وقال صاحب «العين»: أنلته المعروف ونُلته ونوَّلته(41)، والاسم النَّوال(42) والنَّيْل، يقال: نال يَنال منالًا ونَالَة، والنَّوْلَة اسم للقُبلة.


[1] في (م) و (ص): ((◙)).
[2] في (م): ((فقال)).
[3] زاد في (م): ((وذكر الحديث)).
[4] زاد في (م): ((له)).
[5] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((ما)).
[7] في (م): ((وقال الله)).
[8] قوله: ((أن)) ليس في (ص).
[9] في (ز): ((المجترئ))، وفي (ص): ((المتجرئ)) والمثبت من (ص).
[10] في (م) و (ص): ((يمرح)).
[11] قوله: ((من)) ليس في (ص).
[12] قوله: ((◙)) ليس في (ص).
[13] قوله ((شيئًا من)) ليس في (م).
[14] قوله: ((تعالى)) ليس في (ص).
[15] في (ص): ((عن الرسول)).
[16] زاد في (م): ((على)).
[17] في (م): ((قد)).
[18] في (م): ((بما)).
[19] في (م): ((بين موته وقتله)).
[20] قوله: ((╡)) ليس في (ص).
[21] في (ص): ((إنكار موسى على الخضر)).
[22] في (ص): ((وكان لموسى)).
[23] زاد في (م): ((له)).
[24] قوله: ((☺)) ليس في (ص).
[25] قوله: ((تعالى)) ليس في (ص).
[26] قوله: ((◙)) ليس في (ص).
[27] قوله: ((╡)) ليس في (ص).
[28] في (ص): ((قال تعالى)).
[29] في (م): ((عن عباده)).
[30] قوله ((هو)) ليس في (م).
[31] زاد في (م): ((إنما))، وفي (ص): ((يدل إنما)).
[32] قوله: ((تعالى)) ليس في (ص).
[33] في (م): ((إليه بذلك)).
[34] في (م): ((وقوعه)).
[35] في (م): ((آيات)).
[36] قوله: ((╡)) ليس في (ص).
[37] في (م): ((قال المهلب: وفي الحديث من الفقه)).
[38] زاد في (م): ((العالم)).
[39] زاد في (ص): ((ابن كعب)).
[40] في (ز): ((حمولهم)) والمثبت من (م) و (ص).
[41] في (م): ((ونولته ونلته)).
[42] في (ز): ((النول)) والمثبت من (م) و (ص).