شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم

          ░38▒ باب إِثْم مَنْ كَذَبَ على النبي صلعم.
          فيه: عَليُّ بن أبي طَالب ☺ قَالَ: قَالَ النبي صلعم: (لا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ(1) مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ). [خ¦106]
          وفيه: ابن الزُّبَيْرِ أنَّه قَالَ لأَبِيهِ: إِنِّي لا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ(2) صلعم كَمَا يُحَدِّثُ فُلانٌ وَفُلانٌ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ(3) سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). [خ¦107]
          وفيه: أَنَس أنه قَالَ: إنَّه(4) لَيَمْنَعُنِي(5) أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النبي(6) صلعم قَالَ: (مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).
          وفيه: (أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النبي صلعم(7): مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). [خ¦108]
          وفيه: سَلَمَةَ بن الأكوع، قَالَ النبي صلعم(8): (مَنْ يَقول عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ). [خ¦109]
          قال الطبري: إن قيل(9): معنى قول النبي صلعم(10) (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) أَوَ(11) إلى الكاذب تَبَوَّء مقعده من النار فيؤمر بذلك أم ذلك إلى الله؟ فإن يكن ذلك إليه فلا شك أنه لا يُبَوِّء نفسه ذلك وله إلى تركه سبيل، وإن يكن ذلك إلى الله تعالى فكيف أَمَرَ(12) بتبوء المقعد وأمرُ العبدِ بما لا سبيل(13) إليه غَيْرُ جائز؟ قيل: معنى ذلك غير(14) ما ذكرت(15)، وهو بمعنى الدعاء منه ◙ على من كذب عليه كأنه قال: مَنْ كَذَبَ عليَّ مُتعمدًا بَوَّأَهُ اللهُ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، ثم أخرج الدعاء عليه مخرج الأمر له به(16) وذلك جائز في كلام العرب.
          فإن قيل: ذلك(17) عامٌ في كل كذب في(18) أمر الدين وغيره أم(19) في بعض الأمور؟ قيل: قد اختلف السلف في ذلك، فقال بعضهم: معناه الخصوص والمراد من كذب عليه في الدين، فنسب إليه تحريم حلال أو تحليل حرام متعمدًا(20)، وقال آخرون: بل كان ذلك منه ◙ في رجل بعينه كذب عليه في حياته، وادَّعى عند قوم أنه بعثه إليهم ليحكم في دمائهم وأموالهم(21)، فأمر ◙ بقتله إن وجد أو بإحراقه إن وُجِد ميتًا(22)، وقال آخرون: ذلك عام فيمن تعمد عليه كذبًا في دين أو دنيا، واحتجوا بتهيُّب / الزبير(23) وأنس كثرة الحديث عن رسول الله صلعم وبقول عمر: أقلوا الحديث عن رسول الله صلعم وأنا شريككم، وقالوا: لو كان ذلك في شخص بعينه لم يكن لاتقائهم ما اتقوا من ذلك ولا لحذرهم ما حذروا من الزلل في الرواية والخطأ وجهٌ مفهوم، والصواب في ذلك أن قوله ◙ على العموم في كلِّ من تعمد عليه كذبًا في دين أو دنيا؛ لأنه ◙ كان ينهَى عن معاني الكذب كلها إلا ما رخَّص فيه من كذب الرجل لامرأته وكذلك(24) في الحرب والإصلاح(25) بين الناس، فإذا(26) كان الكذب لا يصلح في شيء إلا في هذه الثلاث فالكذب على رسول الله صلعم أحرى ألا يصلح في دين أو دنيا إذ كان الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، وأن الدعاء الذي دعا على من كذب عليه لاحقٌ بمن(27) كذب عليه في كل شيء، وقال الشيخ(28) أبو الحسن بن القابسي: من أجل حديث علي وحديث الزبير هاب من سمع الحديث أن يحدث الناس(29) بما سمع، وهو بيِّن في اعتذار الزبير ☺(30) من تركه الحديث لأنهما لم يذكرا عن النبي صلعم: (مُتَعَمِّدًا).
          ولقد دار بين الزهري وربيعة مُعاتبة، فقال ربيعة للزهري: أنا إنما أُخيِّرُ(31) الناسَ بِرَأْي(32) إن شَاؤوا أخذوا وإن شاؤوا تركوا، وأنت إنما تخبرهم عن رسول الله صلعم، فانظر ما تخبرهم به، وإنما امتنع(33) الناس في الرواية لما في حديث أبي هريرة: (مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا) وكرهوا الإكثار لقول أنس: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثًا كثيرًا، وقد كره الإكثار من الرواية عُمَر بن الخطاب وقال: أَقِلُّوا الحديث عن رسول الله صلعم وأنا شريككم. قال مالك: معناه وأنا أيضًا أقلُّ الحديث عن رسول الله صلعم(34)، رواه ابن وهب عنه، وإنما كره ذلك لما يُخَاف على المُكْثِر من دخول الوهم عليه فيكون متكلفًا(35) في الإكثار فلا يعذر في الوهم؛ ولذلك(36) قال مالك لابني أخته: إن أردتما أن ينفعكما الله بهذا العلم فأقِلَّا منه وتفقَّها، وقال شعبة لكتبة الحديث: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟ وإنما يريد شعبة عيب الإكثار لما يدخل في ذلك من اختلاط الأحاديث.
          وقد سهَّل مالك في إصلاح الحرف الذي لا يشك في سقوطه مثل الألف والواو يسقط أحدهما من الهجاء، وأما اللحن في الحديث فهو شديد، وقال الشَّعبي: لا بأس أن يعرب الحديث إذا كان فيه اللحن(37)، وقال أحمد بن حنبل: يجب إعراب اللحن لأنهم لم يكونوا يلحنون وإنما جاء اللحن بعدهم، وقال ابن القابسي: أخبرني محمد بن هشام المصري أنه سئل أبو عبد الرحمن النسائي عن اللحن في الحديث، فقال: إن كان شيْء(38) تقولُهُ العربُ وإن كان في غير لغة قريش فلا يُغَيَّر لأن النبي صلعم كان يكلم الناس بلسانهم، وإن كان لا يوجد في كلام العرب فرسول الله صلعم(39) لا يلحن.
          واختلفوا في رواية الحديث على المعنى، فقال أبو بكر بن الطيب: ذهب كثير من السلف إلى أنه لا تجوز رواية الحديث على المعنى بل يجب تأدية لفظهِ بعينه من غير تقديم ولا تأخير، ولم يفصلوا بين العالم بمعنى الكلام من غيره(40)، وذهب مالك والكوفيون والشافعي إلى أنه يجوز للعالم بمواقع الخطاب ومعاني الألفاظ رواية الحديث على المعنى، وليس بين العلماء خلاف أنه لا يجوز ذلك للجاهل، وذهبت طائفة أخرى إلى أن الواجب على المحدث أن يروي الحديث على لفظه إذا خاف وقوع لبس فيه متى غَيَّر لفظه، وذلك بأن يكون معناه غامضًا محتملًا للتأويل، فإن(41) كان معناه ظاهرًا معلومًا فلا بأس أن يرويه على المعنى.


[1] قوله ((فإنه)) ليس في (م).
[2] في (م): ((عن النبي)).
[3] في (م): ((ولكني)).
[4] قوله: ((إنه)) زيادة من (م) و (ص).
[5] في (ص): ((يمنعني)).
[6] في (ص): ((الرسول)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((قال ◙)).
[8] في (ص): ((قال ◙)).
[9] زاد في (م): ((ما)).
[10] في (ص): ((قول الرسول)).
[11] كذا في نسخنا، وفي المطبوع: ((أهو)) ونبه في الحاشية أنه في النسخ: ((أو)).
[12] زاد في (م): ((العبدُ)).
[13] زاد في (م): ((له)).
[14] في (م): ((قيل معناه غير)).
[15] في (ص): ((ذكرتم)).
[16] في (م): ((بذلك)).
[17] في (م): ((فذلك)).
[18] في (م): ((من)).
[19] في (ص): ((أو)).
[20] زاد في (م): ((بذلك)).
[21] في (م) و (ص): ((في أموالهم ودمائهم)).
[22] حكم العلماء على هذه الرواية في بيان سبب ورود هذا الحديث بالوضع.
[23] في (ص): ((ابن الزبير)) ونبه إلى المثبت في نسخة، والصواب المثبت.
[24] في (م): ((وكذبه)).
[25] في (م): ((وفي الإصلاح)).
[26] في (ص): ((وإذا)).
[27] في (م): ((لاحق جميع من)).
[28] قوله ((الشيخ)) ليس في (م).
[29] قوله ((الناس)) ليس في (م).
[30] قوله: ((☺)) ليس في (ص).
[31] في (ص): ((أخبر)).
[32] في (م): ((برأيي)).
[33] في (ز) و (م): ((اتسع)) والمثبت من (ص).
[34] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[35] في (م): ((فيخاف أن يكون متكلفًا)).
[36] في (ص): ((وكذلك)).
[37] في (م): ((لحن)).
[38] في (م): ((شيئًا)).
[39] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[40] في (ص): ((بمعنى الحديث وغيره)).
[41] في (م): ((فأما إن)).