شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب حفظ العلم

          ░42▒ باب حِفْظِ الْعِلْمِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَوْلا آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللهِ تعالى(1) مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَتْلُو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} إلى قَوْلِهِ: {الرَّحِيمُ}[البقرة:159-160]إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يشغَلَهُم الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنَ الأنْصَارِ كَانَ يشغَلَهُم الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللهِ صلعم(2) لشِبَعِ(3) بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لا يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لا يَحْفَظُونَ. [خ¦118]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ، قَالَ: ابْسُطْ رِدَاءَكَ، فَبَسَطْتُهُ، فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ، فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ). [خ¦119]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: (حَفِظْتُ مِنَ النبي صلعم وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ). [خ¦120]
          قال أبو الزناد: فيه حفظ العلم والدؤوب عليه والمواظبة على طلبه، وهي فضيلة لأبي هريرة فضَّله النبي صلعم(4) بها بأن قال له: (ابْسُطْ رِدَاءَكَ، ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ) فما نسي شيئًا بعد(5)، وجاء هذا الحديث في كتاب البيوع وقال فيه: فما نسيتُ من مقالته تلك من شيء، وهذا من بركة النبي صلعم، وفيه فضل التقلل من الدنيا وإيثار طلب العلم على طلب المال، وفيه أنه جائز للإنسان أن يخبر عن نفسه بفضيلته إذا اضطر إلى ذلك لاعتذار من(6) شيء أو لتبيين ما يلزمه تبيينه إذا لم يقصد بذلك الفخر.
          وقوله: (وَأَمَّا الآخَرُ لَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ) قال المُهَلَّب وأبو الزناد: يعني أنها كانت أحاديث أشراط الساعة وما عَرَّف به النبيُّ صلعم(7) من فساد الدين وتغيير(8) الأحوال والتضييع لحقوق الله تعالى(9) كقوله صلعم(10): ((يكون فساد هذا الدين على يدي أُغَيْلِمة سفهاء من قريش)) وكان أبو هريرة يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم، فخشي على نفسه فلم يُصَرِّح، وكذلك ينبغي لكل من أمر بمعروف إذا خاف على نفسه في التصريح أن يُعَرِّض، ولو كانت الأحاديث التي لم يحدث بها من الحلال والحرام ما وَسِعَهُ كتمها لأنه قال: لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم(11) ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}[البقرة:159]فإن قال قائل: قول أبي هريرة: (حَفِظْتُ مِنَ النبي صلعم وِعَاءَيْنِ) يعارض قوله: ما كان أحد من أصحاب النبي صلعم أكثر حديثًا(12) مني إلا ما كان من عبد الله بن عَمْرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب، فقوله: لا أكتب خلاف قوله: حفظت وعاءين لأن الوعاء في كلام العرب الظرف الذي يجمع فيه(13) الشيء، قيل(14): لقوله هذا معنًى صحيح لا يخالف بعضه بعضًا، وذلك أنه يجوز أن يريد أبو هريرة أن الذي حفظ من النبي صلعم(15) من السنن التي حدَّث بها(16) وحُملت(17) عنه لو كتبت لاحتملت أن يُمْلَأ منها وعاء، وما كتمه من أحاديث الفتن التي لو حدث بها لخشي أن ينقطع منه(18) البلعوم يحتمل أن تملأ وعاء آخر؛ ولهذا المعنى قال: (وِعَاءَيْنِ) ولم يقل: وعاء واحدًا، لاختلاف حكم المحفوظ في الإعلام به والستر له.
          وقال ثابت: البُلْعُوم هو(19) الحلقوم، وهو مجرى النفس إلى الرئة، قال أبو عبيد: هو البُلْعُمُ والبُلْعُوم، ثابت: والمريء مجرَى الطعام والشراب إلى المعدة متصل بالحلقوم، وهو المبتلع والْمُسْتَرَطُ.


[1] قوله ((تعالى)) ليس في (م) و (ص).
[2] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[3] في (م): ((بشبع)).
[4] في (ص): ((فضله ◙ بها)).
[5] في (ص): ((بعده)).
[6] في (م): ((عن)).
[7] في (ص): ((به ◙)).
[8] في (ص): ((وتغير)).
[9] قوله: ((تعالى)) ليس في (ص).
[10] في (م): ((حقوق الله لقوله ◙)).
[11] في (ص): ((ما حدثت)).
[12] زاد في (م): ((عنه)).
[13] قوله: ((فيه)) ليس في (ص).
[14] زاد في (م): ((له)).
[15] قوله: ((صلعم)).
[16] في (ص): ((فيها)).
[17] في (ز): ((حصلت)) والمثبت من (م) و (ص).
[18] في (م): ((لو حدث بها لقطع منه)).
[19] قوله ((هو)) ليس في (م).