شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس

          ░48▒ باب مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الاخْتِيَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ فَيَقعَ في أَشَدَّ مِنْهُ.
          فيه: عَائِشَةُ، قَالَ النبي صلعم(1): (لَوْلا قَوْمُكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ(2) بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، فَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابًا يَدْخُلُ النَّاسُ(3) وَبَابًا(4) يَخْرُجُونَ) فَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ. [خ¦126]
          قال المُهَلَّب: فيه أنه قد يَتْرُك شيئًا(5) من الأمر بالمعروف إذا خشي منه أن يكون سببًا لفتنة قوم ينكرونه ويسرعون إلى خلافه واستبشاعه(6)، وفيه أن النفوس تحب أن تساس بما تأنس(7) إليه في دين الله من غير الفرائض بأن يُترك ويرفع عن الناس ما ينكرون منها، قال أبو الزناد: إنما خشي أن تنكره قلوب الناس لقرب عهدهم بالكفر، ويظنون(8) أنما يفعل ذلك لينفرد بالفخر دونهم، وقد روي أن قريشًا حين بنت البيت في الجاهلية تنازعت فيمن يجعل الحجر الأسود في موضعه، فحكَّموا أول رجل يطلع عليهم، فطلع النبي صلعم(9) فرأى أن يجعل الحجرُ في ثوب، وأمر كل قبيلة / أن تأخذ بطرف الثوب، فرضوا بذلك ولم يروا أن ينفرد بذلك واحد منهم خشية أن ينفرد بالفخر، فلما ارتفعت الشبهة فعل ابن الزبير فيه ما فعل، فجاء الحجاج فَرَدَّهُ كما كان، فتركه من بعده خشية أن يتلاعب الناس بالبيت(10) ويكثر هدمه وبنيانه.
          وقد استدل أبو محمد الأَصِيْلِي من هذا الحديث في مسألة من النكاح، وذلك أن جارية يتيمة غنية كان لها ابن عم، وكان فيه ميل إلى الصبا فخطب ابنة عمه، وخطبها رجل غني فمال إليه الوصي، وكانت اليتيمة تحب ابن عمها ويحبها، فأبى وصيها أن يزوجها منه ورفع ذلك إلى القاضي وشاور فقهاء وقته، فكلهم أفتى أن لا تزوج من ابن عمها، وأفتى الأَصِيْلِي أن تزوج منه خشية أن يقعا في المكروه _استدلالًا بهذا الحديث_ فزُوِّجت منه.


[1] في (ص): ((قال ◙)).
[2] في (م): ((عهد)).
[3] زاد في (م): ((منه)).
[4] في (ص): ((باب يدخل الناس منه وباب)).
[5] في (م): ((شيء)).
[6] في (م): ((واستشناعه)).
[7] نبه في (ص) إلى نسخة: ((تستأنس)).
[8] في (م): ((فيظنون)).
[9] في (ص): ((فاطلع ◙)) ونبه أنه في نسخة: ((فاطلع النبي صلعم)).
[10] في (م): ((يُتلاعب بالبيت)).