شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره

          ░28▒ باب الْغَضَبِ في الْمَوْعِظَةِ وَالتَّعْلِيمِ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ.
          فيه: أَبُو مَسْعُودٍ الأنْصَارِيِّ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ لا أَكَادُ أُدْرِكُ الصَّلاةَ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلانٌ، فَمَا رَأَيْتُ النبي صلعم غَضِبَ(1) في مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ). [خ¦90]
          وفيه: زَيْد بْن خَالِدٍ: (أَنَّ النبي(2) صلعم سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: اعْرِفْ وِكَاءَهَا _أَوْ قَالَ: وِعَاءَهَا_ وَعِفَاصَهَا(3)، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا فَأَدِّهَا إِلَيْهِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الإبِلِ(4)؟ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ _أَوْ قَالَ: وَجْهُهُ_ وَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا، مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ، فَذَرْهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا) وذكر الحديث. [خ¦91]
          وفيه: أَبُو مُوسَى: (سُئِلَ النبي صلعم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ(5): سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، قَالَ رَجُلٌ: مَنْ أبي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أبي؟ فَقَالَ(6): أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا في وَجْهِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَتُوبُ إلى اللهِ ╡(7)). [خ¦92]
          وترجم لهذا الحديث: باب مَنْ بَرَكَ على رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ الإمَامِ أَوِ الْمُحَدِّثِ، وذكر باقي الحديث(8).
          قال أبو الزناد: قول الرجل (لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوِّل بنا فلان) يدل أنه كان رجلًا ضعيفًا أو مريضًا(9)، فكان إذا طوَّل به الإمام في القيام لا يكاد يبلغ الركوع والسجود إلا وقد زاد ضَعفًا عن اتِّباعه، فلا يكاد يركع معه ولا يسجد، وإنما غضب عليه ◙ لأنه كره التطويل في الصلاة من أجل أن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة، فأراد الرفق والتيسير بأمته، ولم يكن نهيه ◙ عن الطول(10) في الصلاة من أجل أنه لا يجوز ذلك لأنه كان صلعم(11) يصلي في مسجده ويقرأ بالسور الطوال مثل سورة يوسف وغيرها، وإنما كان يفعل هذا لأنه كان يصلي معه جِلَّةُ أصحابه ومَن أكثرُ همه طلب العلم والصلاة(12)، وكذلك غضبه حين سُئل عن ضالة الإبل لأنه لا يخشى عليها ضياع، ففارقت(13) المعنى الذي أُبيح من أجله أخذ اللقطة، وهو خوف تلفها.
          وقول الرجل للنبي صلعم(14): مَنْ أبي؟ فإنما(15) سأله عن ذلك والله أعلم لأنه كان نُسب إلى غير أبيه إذا لاحى أحدًا، فنسبه النبي صلعم إلى أبيه، وفيه فهم عمر وفضل علمه لأنه خشي أن يكون كثرة سؤالهم له كالتعنيت له والشَّك في أمره صلعم، ألا ترى قول عمر: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا، فخاف أن تحل بهم العقوبة لتعنيتهم له صلعم ولقول الله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:101]وقد جاء معنى هذا الحديث بَيِّنًا(16) عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله صلعم استهزاءً، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل يَضِلُّ ناقته: أين ناقتي؟ فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عن أشاء إن تبدَ لكُم تسُؤكم} الآية كلها، ذكره البخاري في تفسير القرآن.
          وفيه: أنه لا يجب أن يُسأل العالم إلا فيما يحتاج إليه، وفي بروك عمر عند النبي صلعم الاستخذاءُ للعالم والتواضعُ له، وسيأتي حديث ابن حذافة في باب التعوذ من الفتنة في كتاب الفتن وفي باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعني في / كتاب الاعتصام فيه(17) شيء من الكلام في معناه.


[1] قوله ((غضب)) ليس في (م).
[2] في (ص): ((الرسول)).
[3] قوله: ((وعفاصها)) ليس في (ص).
[4] في (م): ((وفيه زيد بن خالد أن النبي صلعم سئل عن ضالة الإبل)).
[5] قوله ((للناس)) ليس في (م).
[6] في (م) و (ص): ((قال)).
[7] قوله ((╡)) ليس في (م).
[8] في (م): ((وذكره في الحديث)).
[9] في (ص): ((مريضًا أو ضعيفًا)).
[10] في (م): ((التطويل)) ونبه إليه في (ص) في نسخة.
[11] في (م): ((لأنه ◙ كان)).
[12] في (م): ((والعبادة)).
[13] في (م) و (ص): ((ففارق)).
[14] في (ص): ((الرجل للرسول)).
[15] في (ز): ((فلما)) والمثبت من (م) و (ص).
[16] في (م): ((مبينًا)).
[17] في (م): ((وفيه)).