شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب كتابة العلم

          ░39▒ باب كِتَابَة الْعِلْمِ.
          فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ قَالَ: (قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لا إِلا كِتَابُ اللهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَوْ مَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قال قُلْتُ: وَمَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ(1) وَفِكَاكُ الأسِيرِ وَلا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ). [خ¦111]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُم(2) قَتَلُوهُ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ الله(3) صلعم، فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ _أَوِ الْقَتْلَ(4)_ / وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلا وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لأحَدٍ بَعْدِي) وذكر الحديث، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ(5) الْيَمَنِ، فَقَالَ: اكْتُبْ لي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ(6): (اكْتُبُوا لأبِي فُلانٍ). [خ¦112]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قال(7): مَا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النبي صلعم أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي إِلا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلا أَكْتُبُ. [خ¦113]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا اشْتَدَّ بالنبي صلعم وَجَعُهُ قَالَ: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ) قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النبي صلعم غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ(8): (قُومُوا عَنِّي، وَلا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلعم(9) وَبَيْنَ كِتَابِهِ). [خ¦114]
          قال المؤلف: في آثار هذا الباب إباحة كتابة العلم وتقييده، ألا ترى أن النبي صلعم(10) أمر بكتابه فقال: (اكْتُبُوا لأبِي قِلَابَة(11)) وقد كتب عليّ الصحيفة التي قرنها بسيفه وكتب عبد الله بن عَمْرو، وقد كره قوم كتابة العلم واعتلُّوا بأن كتابه(12) سبب لضياع الحفظ، والقول الأول أولى للآثار الثابتة بكتابه(13)، ومن الحجة لذلك أيضًا ما اتفقوا عليه من كتاب المصحف الذي هو أصل العلم(14)، فكتبته الصحابة في الصحف التي جمع منها المصحف، وكان للنبي صلعم كُتَّاب يكتبون الوحي، وإنما كره كتابه من كرهه لأنهم كانوا حفاظًا وليس كذلك من بعدهم، فلو لم يكتبوه ما بقي منه شيء لنبوِّ(15) طباعهم عن الحفظ ولذلك قال الشَّعبي: إذا سمعت شيئًا فاكتبه ولو في الحائط.
          وقال المُهَلَّب: في(16) حديث عليٍّ من الفقه ما يقطع بدعة المتشيعة المدعين على عليِّ أنه الوصي، وأنه المخصوص(17) بعلم من عند رسول الله صلعم(18) لم يخص به غيره لقوله ويمينه: أن ما عنده إلا ما عند الناس من كتاب الله ╡، ثم أحال على الفهم الذي الناس فيه على درجاتهم، ولم يخص نفسه بشيء غير ما هو ممكن في غيره، فصح بهذا وثبت من إقراره على(19) نفسه أنه ليس بوصي للنبي صلعم، وقد جاء حديث أبي جحيفة عنه على لفظ العهد، فقال له: هل عهد إليك رسول الله صلعم بشيء لم يعهده(20) إلى الناس؟ فأجابه بالحديث، وحديث ابن عباس يشهد لهذا المعنى لأنه ◙ رَامَ أن يعهد في مرضه بقوله: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ) فاختلفوا فترك ذلك، فلو كان عند عليٍّ عهد منه أو وصية لأحال عليها وكشف أمرها.
          واحتج(21) من قال إن النبي صلعم دخل مكة عنوة بقوله صلعم(22): ((إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليهم(23) رسوله والمؤمنين)) وهو قول الجمهور، وإنما خالفه(24) في ذلك الشافعي وحده، وسيأتي ذكر ذلك في كتاب الحج عند حديث ابن خطل إن شاء الله تعالى. وفي قول عمر ☺(25): حسبنا كتاب الله حين قال النبي ◙: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ) فيه من فقه عمر وفضله أنه خشي أن يكتب النبي صلعم أمورًا ربما عُجز عنها فاستُحقَّ عليها العقوبة، وإنما قال: حسبنا كتاب الله لقوله ╡: {ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}[الأنعام:38]فعلم(26) أن الله تعالى لا يتوفى نبيه حتى يُكمل لهم(27) دينهم لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3]فقنع عمر بهذا، وأراد الترفيه(28) عن النبي صلعم لاشتداد مرضه وغلبة الوجع عليه(29)، فعمر أفقه من ابن عباس حين اكتفى بالقرآن الذي أكمل الله فيه الدين ولم يكتف بذلك ابن عباس، وسيأتي هذا المعنى أيضًا في باب النهي على(30) التحريم إلا ما يعرف(31) إباحته في كتاب الاعتصام إن شاء الله.
          وفي قوله: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ) دليل على(32) أن للإمام أن يوصي عند موته بما يراه نظرًا للأمة، وفي تركه الكتاب إباحة الاجتهاد لأنه وكلهم إلى أنفسهم واجتهادهم.


[1] في (م): ((أو ما في هذه الصحيفة وفيها العقل)).
[2] نبه في (ص) إلى نسخة: ((لهم)).
[3] في (م): ((النبي)).
[4] قوله ((أو القتل)) ليس في (م).
[5] قوله: ((أهل)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((فقال)).
[7] قوله ((قال)) ليس في (م) و (ص).
[8] في (ص): ((فقال)).
[9] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[10] في (ص): ((أن الرسول)).
[11] في (م): ((فلان)).
[12] في (ص): ((كتابة العلم)).
[13] في (ص): ((بكتابة العلم)).
[14] في (م): ((أصل للعلم)).
[15] في (م): ((لنبوء)).
[16] في (م): ((وفي)).
[17] في (م): ((مخصوص)).
[18] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[19] في (م): ((إقرار عليّ على)).
[20] في (م): ((لم يعهد به)).
[21] في (م): ((وقد احتج)).
[22] قوله: ((صلعم)) ليس في (ص).
[23] في (م): ((عليها)).
[24] في (م) و (ص): ((خالف)).
[25] في (ص): ((وفي حديث عمر)).
[26] في (م): ((وعلم)).
[27] في (م): ((للناس)).
[28] زاد في (م): ((☺ الترقية))
[29] في (م): ((له)).
[30] في (م): ((عن)).
[31] في (م): ((تعرف)).
[32] قوله ((على)) ليس في (م).