شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب فضل من علم وعلم

          ░20▒ باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ.
          فيه: أَبُو مُوسَى، قَالَ النبي صلعم(1): (مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا(2) النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هي قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ(3) فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الذي أُرْسِلْتُ بِهِ). [خ¦79]
          وَقَالَ إِسْحَاقُ: قَيَّلَتِ الْمَاءَ مكانَ (قَبِلَت).
          قال المُهَلَّب: فيه ضرب الأمثال في الدين والعلم والتعليم، وفيه أنه لا يَقبل ما أنزل الله من الهدى والدين إلا من كان قلبه نقيًّا من الإشراك والشك، فالتي قَبِلَت العلم والهُدى كالأرض المتعطشة إليه، فهي تنتفع به فَتَحْيَا فتُنبِت، فكذلك هذه القلوب البريئة من الشرك والشك المتعطشة إلى معالم الهدى والدين إذا وَعَت العلم حَيِيَتْ به، فعملت وأنبتت بما تُحيي به أرماق الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاج إليه؛ ومن الناس من قلوبهم متهيئة لقبول العلم لكنها / ليس لها رسوخ، فهي تَقبل وتُمسك حتى يأتي متعطش فيَرْوَى منها ويَرِدُ على منهل يحيا به، وتسقي به أرضًا نقيَّة فتنبت وتثمر، وهذه(4) حال من ينقل العلم ولا يُصَرِّفُه(5) ولا يفهمه.
          (ومِنها قِيعَانٌ) يعني قلوبًا تستمع(6) الكلام فلا تحفظه ولا تفهمه، فهي(7) لا تنتفع به ولا تُنبت شيئًا كالسِّباخ المالحة التي لا تمسك الماء ولا تنبت.
          وكان يصلح أن يُخرج تحت هذه الترجمة قوله ◙: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).
          وقوله: (أَجَادِب(8)) جمع جدب على غير لفظه، وكان القياس أن يكون جمع أجدب لو قيل، وقد جاء مثل هذا كثير، قالوا: محاسن جمع حَسن، وكان القياس أن يكون جمع مَحْسَن لو قيل، وقالوا: مَشَابه جمع شَبَه على غير لفظه، وكان القياس أن يقولوا مشبَّه؛ وقول إسحاق: قَيَّلَتِ الماء مكان (قَبِلَت) فهو تصحيف وليس بشيءٍ(9).


[1] في (ص): ((قال ◙)).
[2] في (م): ((به)).
[3] في (م): ((ما بعثني به الله)).
[4] في (م): ((فهذه)).
[5] في المطبوع: ((ولا يعرفه)).
[6] في (م) و (ص): ((تسمع)).
[7] في (ص): ((وهي)).
[8] في (م) حاشية: ((قال الشيخ: ويدون في كتابه الذي جمع فيه المصنفات السبع: وقعت لفظة أجادب في الحديث وأجمع الرواة عليها ولم أجد لها في اللغة أصلًا، ولعلها أن تكون إِخَاذَات وهي الغُدُر التي تأخذ ماء السماء، قال أبو عبيد: الإخاذة جمعه الأُخُذ، وهو موضع يجتمع فيه الماء، قلت: وتصحيح المشهور في هذا الحديث (وكانت منها أجادب أمسكت الماء) بالجيم والدال المهملة، وهي المواضع الصلبة يقال مكان جدب وأجدب، ثم يجمع أجدب على أجادب ويقال: أرض جدبة، إذا كانت صُلبة قليلة المطر والنبات، فتأمل ما حكاه ابن بطال في الأصل واذكر هذا، فقد حكاه القاسم بن ثابت في كتاب «الدلائل في شرح الحديث»)).
[9] في (م) حاشية: ((قلت ليس هو بتصحيف، وقد حكى قاسم بن ثابت السَّرَقُسْطِي في كتابه المسمى بـ «الدلائل» عن أبي بكر بن دريد أن العرب تقول: تَقَيَّل الماء في المكان المنخفض إذا اجتمع فيه، فليس من قصَّر حجة على من لم يقصِّر، والله يوفقه للصواب. تمت)).