نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أن أبا بكر تزوج امرأةً من كلب يقال لها أم بكر

          3921- (حَدَّثَنَا أَصْبَغُ) بفتح الهمزة وبالغين المعجمة، أبو عبد الله المصري، وهو من أفراده، قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبدُ الله بن وهب المصري (عَنْ يُونُسَ) هو: ابنُ يزيد الأيلي (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهري (عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ☺ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ كَلْبٍ) أي: من بني كلب، وهو كلبُ بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. ويدلُّ عليه ما وقع في رواية الترمذي الحكيم من طريق الزُّبيدي عن الزُّهري في هذا الحديث، ثمَّ من بني عوف. وأمَّا الكلبي المشهور فهو من بني كلب بن وبرة بن تغلب بن قضاعة.
          (يُقَالُ لَهَا: أُمُّ بَكْرٍ) قال الحافظُ العسقلاني: لم أقفْ على اسمها، فكأنَّه كنيتها المذكورة (فَلَمَّا هَاجَرَ أَبُو بَكْرٍ ☺ طَلَّقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا هَذَا الشَّاعِرُ، الَّذِي قَالَ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ) وهو أبو بكر شداد بن الأسود بن عبد شمس بن مالك بن جعونة، ويقال له: ابن شَعُوْب _بفتح الشين المعجمة وضم العين المهملة وسكون الواو وآخره موحدة_، وقال ابنُ حبيب: هي أمه، وهي خزاعيَّة، لكن سمَّاه: عَمرو بن شمر، وأنشد له أشعاراً كثيرة قالها في الكفر، قال: ثم أسلم. وذكر مثلَه ابنُ الأعرابي في كتاب: من «نُسِبَ إلى أمه». وزعمَ أبو عبيدة: أنَّه ارتدَّ بعد إسلامه، حكاه عنه ابن هشام في «زوائد السيرة»، والأوَّل أولى.
          وزاد الفاكهيُّ في هذا الحديث / من الوجه الذي أخرجه البخاري منه: قالت عائشة ♦: والله ما قال أبو بكر بيت شعرٍ في الجاهلية ولا الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شربَ الخمر في الجاهلية.
          وهذا يضعِّف ما أخرجه الفاكهي أيضاً من طريق عوف عن أبي القَموص قال: شربَ أبو بكر ☺ الخمر قبل أن تُحرَّم، وقال هذه الأبيات، فبلغ ذلك النَّبي صلعم فغضب، فبلغ ذلك عمر ☺ فجاء فقال: نعوذ بالله من غضبِ رسولِ الله صلعم ، والله لا يلج رؤوسنا بعد هذا أبداً، قال: فكان أوَّل من حرَّمها.
          فهذا قد عارضه قول عائشة ♦، وهي أعلم بشأن أبيها من غيرها، وأبو القموص لم يدرك أبا بكر ☺، فالعهدة على الواسطة، فلعلَّه كان من الرَّوافض.
          (رَثَى) من رَثَيْثُ الميت [أرثيه] مَرْثِيَّة ورَثَوْتُه: إذا عددتَ محاسنه، وكذلك إذا نظمت فيه شعراً، ورثى له: رقَّ له وتوجَّع. قال ابنُ الأثير: المرثيَّة من أبنية المصدر نحو المغفرة والمعذرة.
          (كُفَّارَ قُرَيْشٍ) يعني: يوم بدر لما قُتلوا وألقاهم النَّبي صلعم في القَليب (وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ) القليب: هي البئر التي لم تطوَ، و«قليب بدرٍ»: هي البئر التي ألقى رسولُ الله صلعم فيها جيفَ صناديد قريش الذين قتلوا يوم بدرٍ.
          (مِنَ الشِّيْزَى تُزَيَّنُ بِالسَّنَامِ) «الشِّيْزَى»: بكسر المعجمة وسكون المثناة التحتية وفتح الزاي، مقصوراً، هو شجر يتَّخذ منه الجفان والقصاع الخشب التي يُعمل فيها الثريد. وقال الأصمعيُّ: هي من شجر الجوز تَسْوَدُّ بالدسم. وأراد بالشِّيْزى: ما يُتَّخذ منها؛ أي: الجفنة، وبالجفنة صاحبها، كأنه قال: ماذا بالقليبِ من أصحاب الجفان الملأى المزينة بلحومِ أسنمة الإبل. وقيل: كانوا يسمون الرَّجل المِطْعام جفنة؛ لكثرة إطعامه الناس فيها.
          وأغرب الدَّاودي فقال: «الشِّيزى»: الجِمَال، قال: لأن الإبل إذا سمنتْ تعظم أسنمتها ويعظمُ جمالها. ورد عليه ابنُ التين، قال: وإنما / أراد أنَّ الجفنة من الثَّريد تزين بقطع اللَّحم من السَّنام.
          (وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ مِنَ الْقَيْنَاتِ وَالشَّرْبِ الْكِرَامِ) «القينات»: جمع قَيْنة _بفتح القاف وسكون التحتانية بعدها نون_: هي المغنِّية، وتطلق أيضاً على الأَمة مطلقاً سواء كانت مغنِّية أم لا.
          و«الشَّرْب»: بفتح الشين المعجمة وسكون الراء، جمع شارب، أو هو اسمُ جمع. وجزمَ ابن التين بالأول فقال: هو كتَجْر وتاجر، والمراد بهم النَّدامى الذين يجتمعون للشرب.
          (تُحَيِّي بِالسَّلاَمَةِ أُمُّ بَكْرٍ فهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلاَمِ) «تحيِّي»: مضارع حيَّى _بالتشديد_ تحيَّة، وفاعله «أم بكر». وقوله: «من سلام»؛ أي: من سلامة، وفيه تأييدٌ لمن قال: المراد من السَّلام: الدُّعاء بالسَّلامة والإخبار بها. وقال العينيُّ: أراد بالسَّلامة: السلام؛ لأنَّ معنى السَّلام الذي هو التَّحية الإسلامية: السلامة. ألا ترى كيف عطف عليه في المصراع الأخير بالسلام. وقوله: «فهل لي» في رواية الكُشميهني: <وهل لي> بالواو، يريد: وهل لي بعد هلاك قومِي من سلامة.
          (يُحَدِّثُنَا الرَّسُولُ بِأَنْ سَنَحْيَا وَكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ) «أصداءٍ» جمع صدًى وهو ذَكَرُ البوم. و«هام»: جمع هامة، وهي جمجمة الرأس، وقيل: الصَّدي: الطَّائر الذي يطيرُ بالليل. والهامة: جمجمة الرأس التي يخرج منها الصَّدى بزعمهم.
          وقال أهل اللَّغة: كان أهل الجاهلية يزعمون أنَّ روح الإنسان تصير طائراً، يُقال له: الصَّدى، وقيل: هو الذَّكر من النَّعام. وقال الدَّاودي: الصَّدى: عظام الميت. والهام: جمع هامة: وهم الموتى، يُقال: أصبحَ فلان هامة إذا مات. ويحتمل أن يريد الأشراف؛ لأن هامة القوم سيِّدهم.
          وعن أبي عبيد في «تفسيره»: إنَّ العرب كانت تقول: إذا مات الميت يكون من عظامهِ هامة تطيرُ. وقال الهروي: يسمون ذلك الطَّائر الذي يخرج من هامة الميت إذا مات: الصَّدى. وذكر ابن فارس: أنَّ العرب كانت تقول: إنَّ روح القتيل الذي لا يُدرَك بثأره تصيرُ هامة في القبر، فتزفر وتقول: اسقُوني اسقوني، فإذا أدرك بثأرهِ طارت فذهبت. /
          قال الشاعر:
إنَّكَ إن لَا تَذَر شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي                      أَضْرِبكَ حَتَّى تَقُولَ الهَامَةُ اسْقُونِي
          وذلك كله من ترُّهات الجاهلية وأباطيلهم، وإنكارهم البعث كأنَّه قال: إذا صار الإنسان هذا الطَّائر كيف يصير مرَّة أخرى إنساناً، وقد جاء الشَّرع: بنفي ذلك، وإثبات البعث.
          ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: «فلمَّا هاجر».
          والحديث من أفراد البخاري.
          تذييل: وقع عند الإسماعيليِّ من طريق أُخرى عن ابن وهب وعن عنبسةَ بن حاتم أيضاً كلاهما عن يونس بالإسناد المذكور أنَّ عائشة ♦ كانت تدعو على من يقولُ: إن أبا بكر ☺ قال القصيدة المذكورة، فذكر الحديث، والشعر مطوَّلاً.
          وعند الترمذيِّ الحكيم من طريق الزُّبيدي عن الزُّهري مثله، وزاد: قالت عائشة ♦: فَنحَلَها النَّاسُ أبا بكر الصِّدِّيق ☺ من أجل امرأته أم بكر التي طلَّقها، وإنما قائلها أبو بكر بن شعوب. انتهى.
          وابن شعوب المذكور هو الذي يقول فيه أبو سفيان:
......                      وَلَمْ أَحْمِلِ النَّعْمَاءَ لِابْنِ شَعُوبِ
          وكان حنظلةُ بن أبي عامر حمل يوم أُحدٍ على أبي سفيان، فكاد أن يقتلَه، فحمل ابن شعوب على حنظلة من ورائه فقتله، فنجا أبو سفيان فقال في ذلك أبياتاً منها هذا البيت.